البعد الإبداعي
يعني الإبداع لغةً "ابتداء الشيء أو صنعة على غير مثال سابق". تشتق الكلمة في اللغات الأوروبية من كلمة الخلق Création، أصلها لاتينيا Creare، أي الخروج إلى الحياة، تصميم، إنشاء، اختراع إلخ. والحقيقة أنه ليس هناك تعريف قار ومتفق عليه لمفهوم الإبداع. لكن كل التعاريف تتفق على أنه نشاط فكري ملموس، بل إنه تمظهرا للشخصية، ذا ارتباط وطيد ببيئة بعينها. إنه إذن كفاءة فرد ما على إنتاج، ميزته الأساسية هي الطلاقة الفكرية والمرونة التلقائية والأصالة. وتتجلى هذه الأخيرة في القدرة على النفاذ إلى ما وراء المباشر والمألوف من الأفكار.
في حين تتجلى الطلاقة في إنتاج أفكار عديدة لفظية وأدائية لمشكلة نهايتها مفتوحة. لهذه الأسباب مجتمعة، هناك أسباب أخرى من طبيعة الحال، اهتمت كل المدارس السيكولوجية بالإبداع كنشاط وجداني-معرفي وخصصت له مساحات واسعة في دراساتها وبحوثها. يؤكد يونغ بأن العقدة الإبداعية تتطور بشكل لاواع في البداية وتستمر في التطور حتى لحظة معينة لتخرج إلى الوعي. أما أصحاب النظرية السلوكية فيرون بأن التفكير في حل مشكلة ما هو استجابة لموقف أو مثير معين، يستخدم فيه الفرد عادات وأنماط معينة من السلوك على شكل هرمي حسب قوة ارتباطها بالموقف. ويؤكد سكينر بأن هنالك تفاعل بين عاملي الوراثة والبيئة في حدوث الإبداع ويرى بأن التفكير الإبداعي هو ذلك النمط من التفكير الذي يلقى التعزيز الإيجابي، وهذا ما يضمن استمراره.
ويتفق أصحاب الإتجاه الإنساني في السيكولوجيا، وعلى رأسهم إيريك فروم، على أن لكل فرد القدرة على الإبداع، ويتوقف تحقيق هذه القدرة على المناخ الإجتماعي حيث يعيش. أما الجشتالتية Gestalt فترى بأن للشخص المبدع حساسية جمالية تمكنه من القيام بالإختيار المتميز من بين اختيارات كثيرة تكون في متناوله. وتؤكد النظرية الترابطية على أن الإبداع هو تنظيم للعناصر المترابطة في تراكيب جديدة متطابقة مع المقتضيات الخاصة، أو تمثيلا لمنفعة ما، وكلما كانت العناصر الجديدة الداخلة في التركيب أكثر تباعدا كلما كان الحل أكثر إبداعا. وقد اهتم بياجي، أهم ممثلي النظرية المعرفية في السيكولوجيا، بالإبداع أيما اهتمام؛ ذلك أن الإبداع يمثل طبقا لهذه المدرسة طرق الحصول على المعلومات ودمجها من أجل البحث عن الحلول الأكثر كفاءة، شريطة توفر حرية التفكير والقدرة على التحكم في المعلومات وتشكيلها. وأهم شيئ في هذه النظرية هو اعتبارها التفكير الإبداعي تفكيرا تظهر فيه حالات سيطرة الوعي والتفاعل الذهني في المواقف الإبداعية، لأن الإبداع يتضمن عمليات ذهنية كالإنتباه والإدراك والوعي والتنظيم والترميز والوصول في النهاية إلى تشكيل أو إبداع خبرة جديدة.
يحتوي برنامج "ريحة الدوار" على مجموعة من الخصوصيات تسمح بتأطيره في خانة الإبداع الأصيل. ذلك أنه يوحي بتفكير ابتكاري، ويعتبر هذا الأخير مظهرا سلوكيا في نشاط الفرد يتجلى من خلال تعامله مع أفراد المجتمع وعدم النمطية أو جمود الفكر. كما نلمس في البرنامج تفكيرا تأمليا عميقا للكثير من الناس الذين يقدمهم. وهو من بين أنماط التفكير التي يلجأ إليها الفرد عندما يواجه موقفا أو مشكلة تحتاج إيجاد حل مناسب، ويتسرب ذلك في قصص حياة ونكت وحكم مختلفة.
وكل من يتابع "ريحة الدوار" يكتشف بأن الكثير ممن يشارك فيه يتسمون بالتفكير المساير أو التوفيقي، فهناك مرونة وعدم الجمود والقدرة على الإستيعاب وتقبل أفكار الآخرين وتغيير الأفكار لإيجاد طريق وسط في حل معضلات الحياة. كما يتيح البرنامج للمشاركين فيه، وللمستمع بطريقة غير مباشرة، التحرر من الخوف والمنع والكبت.
هناك حساسية خاصة للمشاكل التي يتعرض لها البرنامج وهي عامل من العوامل المكونة للقدرة على التفكير الإبتكاري؛ فالإبتكار لا ينطلق من لا شيء، بل من جملة من الوقائع التي تدفعه إلى تحسس النقائص فيها والعمل على تحسينها وتغييرها نحو الأفضل بالنسبة للفرد المبتكر.
وهنا يظهر نمط التفكير الإنتاجي التباعدي بكل قوة. كما أن المتتبع للبرنامج لابد أن يلاحظ عند الكثير ممن تتاح لهم الفرصة للكلام بأنهم يتمتعون بطلاقة عالية في حديثهم. ويلاحظ ذلك في سرعة إنتاج كلمات محددة تؤدي معنى، مصحوبة بطلاقة تداعي الأفكار وإنتاج كلمات ذات معنى محدد.
في الكثير من الحلقات، يلمس المرء مرونة كبيرة للمتحدثين عندما يواجهون بأسئلة تبدو تعجيزية، ومنها بالخصوص المرونة التكيفية عند تغيير زاوية التفكير في اتجاهات مختلفة ومستمرة والمرونة التلقائية الخاصة بإنتاج عدد من الأفكار المرتبطة بموقف غير محدد بدقة. في كل الحالات، تعد المرونة كيفما كان نوعها من أهم مقومات الصحة النفسية، على الرغم من وجوب التمييز بين الإنسان المرن ونظيره المراوغ الذي لا يبالي بالحياة وقيمها. ذلك أن المرن يستطيع التغلب على مشاكل الحياة بتغييرها وتكييفها حسب الإمكانياته المتاحة له، أما المراوغ فيكون أكثر عرضة للصدمات والصراعات النفسية إذا لم يصل إلى هدفه.
إعطاء الكلمة لفئة "منسية"
ككل بلدان أرض الله الواسعة، هناك في المغرب تمييز بين ما يسمى بالعقلية البدوية ونظيرتها "المتحضرة". وغالبا ما يُنظر للثقافة البدوية كثقافة تابعة، "بدائية"، خشنة وجامدة، بالمقارنة بثقافة المدن الديناميكية والمتجددة على الدوام. والحقيقة أن هذا الحكم القيمي لا يعدو أن يكون إلا حكما مسبقا، يدخل في إطار التنافس بين أنماط الحياة في المجتمع، منتجا أحكاما مسبقة متبادلة بين البادية والمدينة.
يكمن الغنى الثقافي الشعبي للمغرب في تعدد وتنوع ليس فقط مصادره ومضامينه، بل رقعه الجغرافية. وهذا الغنى المتنوع هو بالضبط ما يشكل الهوية المغربية المتنوعة، وهو تنوع قل نظيره في العالم. ولا يعتبر هذا التقرير نرجسية ثقافية أو تصلب للبلد، بل هو واقعة سوسيو-ثقافية يُقر بها كل الباحثين، سواء المغاربة أو الأجانب.
ولعل أهم شيئ يحاول برنامج "ريحة الدوار" القيام به في هذا الإطار هو وعي هذا الغنى الثقافي الشفاهي للتعبير عن نفسه، مكسرا بذلك الحدود الوهمية في الذهنيات وفاتحا الباب على مصراعه لتفاعل المجتمع برمته مع كل مكوناته الثقافية والإثنية والجغرافية. وبهذه الطريقة يساهم في تثبيت الهوية الوطينة والسلام المجتمعي، وهذا ما يعتبر تلقيحا ضد كل محاولات المس بكرامة المغربي وتفعيل الوعي بتعدد مشاربه الثقافية الشعبية وتعايشها، بل تفاعلها في الكثير من الأحيان.
إعطاء الكلمة لأهل البادية هو اعتراف علني بأهمية خصوصيات أنماط عيشهم وتحرير لمُعاشاتهم، وبالخصوص السيكو-اجتماعية منها. فإذا كان الكلام على المستوى الشخصي فنتيلا ومتنفسا يسمح للفرد التخلص مما يشغله داخليا أو التعبير عما يفرحه ويسعده، فإنه بالطريقة التي يُمارس بها في البرنامج –مشاركة عدد كبير من الأفراد- هو كلام جماعي يسمح للمُشاركين التعبير جماعيا عن مشاعرهم و أفكارهم إلخ. وبهذا يمكن اعتبار البرنامج مناسبة لوعي جماعة ما (دوار ما) بهويتها وما يُلحم أفرادها. والأهم من هذا هو أن البرنامج سمعي وليس بصريا (تلفزيا)، وبهذا يربط مع خصوصية البادية السمعية، ذلك أن مجموع الثقافة البدوية بالمغرب مرتبطة بنمط تواصلي يعتمد أساسا على الكلام والسمع. وفي هذا بالضبط تكمن أصالة البرنامج.
البعد الإثنو-أنثروبولوجي
يعتبر البرنامج، بالنظر إلى كثافة وتنوع وغنى المضامين التي يقدمها، مستودعا من المعلومات الإثنو-انثروبولوجية للمناطق التي يزورها. فإذا استغلت هذه المعلومات الخام بطريقة علمية، فإنها ستساهم بما لا يدع مجالا للشك في الفهم العميق لمختلف أنماط الحياة المنتشرة في المغرب. وبهذا فإن البرنامج يساهم في توثيق ثقافات شفاهية مهددة على الدوام بالإندثار بفعل منطق الحياة العصرية وثقافتها، التي تحاول "إنتاج" أناس متشابهين في سلوكهم وطريق تفكيرهم وعاداتهم الغذائية وتصوراتهم للعالم.
وبهذه الطريقة، التي تتوخى التحكم في البشر وتدجينهم طبقا لنماذج معينة، تُمسح المقومات الإنسانية للمجموعات البشرية وللأفراد على حد سواء ويذوب الوعي بالهوية الذاتية الخاصة، بسبب وهم المشاركة في ثقافة كونية صالحة للبشرية جمعاء.
وهذا القتل المعتمد والممنهج للهويات الإقليمية ومحاولات تذويبها في أنماط ثقافية غريبة عنها هو الخطر الحقيقي على الشعوب، لأنه ينتج فضاء ثقافيا باهتا بلون واحد، ويتمظهر هذا على المستوى الإقتصادي-الإستهلاكي مثلا في وجود نفس السلسلات التجارية في مختلف المدن، سواء تعلق الأمر باللباس أو الأكل أو مواد استهلاكية أخرى. فالحرص على سبيل المثال على تقديم نفس الوجبة الغذائية بنفس الطعم والحجم والشكل والمحتوى لسلسة مطاعم معينة في كل ربوع العالم، هو طبع ذوق المستهلك وإجباره على التخلي، الشعوري أو اللاشعوري، على عاداته الغذائية سواء أكانت وطنية أو إقليمية أو محلية.
يساهم برنامج "ريحة الدوار" إذن في تعزيز الإنتماء إلى المنطقة، وبالتالي إلى الوطن بطريقة إيجابية واعية. ولهذا السبب يمكن اعتباره من الأهمية بمكان للسوسيولوجي مثلا، الذي سيجد فيه خزانا للدراسة وللسيكولوجي الذي قد يتتبع طريقة تفكير منطقة معينة ويعري عما يؤرقها نفسيا وللمؤرخ من أجل فهم التاريخ العام بمساعدة التاريخ المحلي وتصحيح ما يروج من أخبار تاريخية عمل الخيال فيها عملته وللأديب، لأن الحكايات الشفوية والأشعار الشعبية والحكم المقدمة من طرف المشاركين في البرنامج قد تُلهمه وتفتح باب الإبداع في وجهه.
كما يقدم البرنامج "خدمة" لا يستهان بها للسياسي الذي يريد بالفعل خدمة وطنه، ولا تهمه بالأساس الشهرة أو ربح المال من عمله، بقدر ما يهمه خدمة الناس والوطن. فهذا الأخير يبدأ واقعيا في "الدوار"، أي في المكونات الميكروسكوبية للمكون الماكروسكوبي للبلد. فالسياسي الذي لا يَنْغَمِس ولا يُغَمَّس في هذا الفضاء الجغرافي والثقافي لن يفهم لا كيف يصل إلى أناسه ولا كيف يمكنه مخاطبتهم. ولن يتأتى له ذلك إلا إذا حرص على البقاء ملتصقا بمنطقته وألا يُغير الجلباب "بالكوستيم" والحمار بـ"اللاندروفر" ويتسابق على حقه في الكلام في أبواق إعلامية، متنازلا عن هذا الحق في البرلمان.
خلاصة القول، إذا أراد المرء فهم أسباب النجاح المتميز الذي يعرفه هذا البرنامج، ليس فقط في قلب المملكة، لكن خارجها في صفوف المهاجر المغربي؛ فلابد من الإنتباه إلى تلك الشعلة النوستالجية التي يربط بها البرنامج المستمع إليه. تتكون المدن المغربية من الناحية المورفو-سوسيلوجية والبشرية من جانب بدوي قح، لايقتصر فقط على حواشي المدن وأحياء الصفيح، بل يشمل كذلك الأحياء "الراقية"، ولهذا السبب يجد برنامج "ريحة الدوار" إقبالا كبيرا في صفوف ساكنة المدن، لأن ما يتحدث عنه مألوف عندهم، بل عِيش بالفعل من طرف الكثيرين. كما أنه يُعتبر مهما بالنسبة للمهاجر، وعيا بأن الأغلبية الساحقة منهم نزحت من بوادي مغربية كثيرة في اتجاه أوروبا، ولهذا السبب يجدون حتى في اختيار إسم البرنامج نوعا من سحر ظروف الغربة. فالمعنى السيكو-سيميائي للكلمة الأولى للبرنامج "ريحة" كافية لتذكير المهاجر ببلده الأصلي والإحساس بالإرتباط به عن طريق قرية من القرى حيث يُعد. وهذا بالضبط ما أحسست به وأنا أستمع للبرنامج، عندما اكتشفته صدفة وأنا أبحر في التيارات العاتية للمحيطات الرقمية في قلب جبال الألب، حيث أعيش لأكثر من ربع قرن.