في اللغة يقال اسْتَشَارَ الأمْرُ أي تَبَيَّنَ واِتَّضَحَ، و اِسْتَشَارَ العَسَلَ أي اِسْتَخْرَجَهُ وجَناهُ. وكانت العرب قديما تقول شارة الشاة أي أجراها عند البيعِ ليُظهر قوَّتَها، وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها. كما يقال أيضا شَارَ الْمَتاعَ أي عَرَضَهُ لِيُبْدِيَ مَا فِيهِ مِنْ مَحَاسِنَ. أما في القرآن الكريم فورد قول الله إلى رسوله: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” (آل عمران:159)، فالمشورة، في الإسلام، تبقى ضرورية بل وواجبة قبل حسم الأمر، أي عند اتخاذ القرارات الحاسمة. وهي بذلك أحد قواعد وأٌسٌس الحكم، ومنها استنبط علماء الفقه مفهوم “نظام الشورى” كمقابل للحكم الديمقراطي الذي ظهرت قواعده وتطورت في الغرب قبل أن تصبح كونية.
الاستشارة والاستعارة
وفي التراث الإنساني تٌلخِّص لنا حكايات “كليلة ودمنة”، أهمية الاستشارة والمستشار ليس فقط في عالم الإنسان وإنما أيضا في عالم الحيوان الذي كان الحكماء قديما يتخذونه كمجال للاستعارة حتى يجنبوا أنفسهم غضب وردة فعل الحكام المستبدين في العصور الخوالي. وتكمن أهمية هذا النص الكوني في أنه يٌبين لنا أن إسداء النصيحة والاستشارة هي واجب على المثقف حتى وإن غامر بحياته، كما حصل مع الفيلسوف بيدبا الذي ذهب مشيرا على ملكه الهندي دبلشيم وناصحا له، بعد أن تبدل هذا الأخير من ملك عادل رحيم بشعبه إلى طاغية جبار يرتكب كل جرائم الحكام الفاسدين. وعندما وقف الفيلسوف الحكيم بيدبا أما ملكه، وكان الملك يعتقد أنه جاءه متوسلا عطفه وكرمه إلا أن بيدبا فاجئه بالقول بدون لف أو دوران: “إني أتيتك ناصحا مشفقا عليك”، بعد أن “طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية”، ونصحه بأن يحسن النظر برعيته، ويسن لهم سنن الخير، لأن “الحازم اللبيب من ساس المُلك بالمداراه والرفق”. لكن الملك دبشليم لم يعجبه كلام الفيلسوف فأمر بقتله وصلبه قبل أن يتراجع عن قراره وأمر فقط بحبسه وتقييده، وبعد فترة تأمل فكر فيما قاله له الفيلسوف الحكيم والشجاع، فارعوى لذلك، وأدرك أنه أساء فيما صنع به، وأمر بإحضاره من السجن وطلب منه أن يعيد عليه مشورته، وظل الملك يستمع إلى ما يقوله الفيلسوف الحكيم مستمتعا ومتأثرا حتى انتهى من كلامه، وفي لحظة تواضع قال الملك إنه سينظر في الذي أشار به الفيلسوف، وسيعمل به، وحين سأله عن الأجر الذي يطلبه مقابل نصيحته، كان طلب الفيلسوف هو أن يأمر الملك بتدوين حِكمِه التي رواها عليه على لسان الحيوانات في كتاب فكان له ما طلبه. وبذلك ترك لنا كتاب مليء بالحكايات عن خبايا السياسة وطرق الحكم وطرق تقديم المشورة والعظة، وهو الكتاب الذي سيترجم فيما بعد إلى اللغة العربية تحت عنوان: “كليلة ودمنة”.
العظة لمن يتعظ !
وفي التراث العربي هناك الكثير من الأمثلة عن علماء حاولوا تقديم النصح والمشورة للملوك والسلاطين، وكان مصيرهم السجن أو القتل، إلا القلة القليلة ممن وجدوا الصدر الرحب عند من أسدوا لهم النصيحة أو المشورة. وفي التاريخ المغربي يحضر نموذج عبد السلام ياسين الذي تجرأ عام 1974 وقدم نصيحته إلى الملك الراحل الحسن الثاني، في رسالته المشهورة التي حملت عنوان: “الإسلام أو الطوفان”، فكان مصيره الاعتقال والرمي بالجنون، لتنبيه عامة الناس إلى أن ما أقدم عليه هو عمل جنوني، بالنظر إلى المخاطر التي عرض لها حياته وحياة أهله. فالملك في منطق صاحب السلطة هو من سلالة أرفع من بقية رعيته، وبالتالي فهو ليس في حاجة إلى مشورتهم أو نصحهم بقدر ما هو في حاجة إلى خدمتهم له.
وفي الثقافة الغربية يشير نيقولا ميكيافيل في كتابه “الأمير” إلى ” أن القاعدة الأساسية في كل حكم هي أن يلجأ الأمير، إلى طلب الاستشارة من أي جهة كانت حتى يضمن لقرارته أن تكون صائبة وحتى يظهر دائما أميرا حكيما”.
مستشار في غرفة النوم!
وفي هذا السياق يخبرنا عبد الهادي بوطالب، أحد مستشاري الملك الحسن الثاني، أن مستشار الملك هو جليسه، وبالتالي فهو ما بين المرتبتين: الصديق والمٌؤنس. يقول بوطالب في كتابه “نصف قرن في السياسة” أن الملك الحسن الثاني لما استدعاه مع أربعة من مستشاريه الأربعة: أحمد رضا كديرة، وإدريس السلاوي، وأحمد بن سودة، خاطبهم بالقول: “ستكونون مستشارين لي بالديوان الملكي… والمستشارون هم خُلَصائي وجلسائي المقرَّبون إليَّ، فلا أختارهم إلا من بين الذين يعرفونني ويعرفون توجهاتي وممن لا يضايقني أن أستقبلهم ولو في غرفة نومي وحتى من دون أن أكون قد غادرت الفراش”.
الحاجب والصدر الأعظم
وكلمة مستشار، كوصف لوظيفة كبار المسؤولين داخل البلاط الملكي، لم تظهر إلا في عهد الملك الحسن الثاني، أما فيما قبل فقد كان الحاجب والصدر الأعظم يقومان بما يشبه هذا الدور، وفي بعض الحالات تضخم دور الحاجب والصدر الأعظم حتى أصبح هو الآمر الناهي داخل المملكة يملي على السلطان ما يجب فعله أو تركه. ولنا في الآداب السلطانية المخزنية الكثير من الحالات التي كانت فيها شخصية الصدر الأعظم أكثر حضورا وقوة في تقرير مصير المملكة من الملك نفسه.
ونكاد لا نجد أدبيات تتحدث عن مهمة المستشار عند الملوك والسلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، فهذا المصطلح لم يظهر إلا حديثا، ولم يتخذ طابعا رسميا إلا في عهد الملك الحسن الثاني. وحتى بالنسبة للحسن الثاني فإن مهمة المستشار لم تكن واضحة، فهو بمثابة المؤنس والجليس أكثر منه الموظف المكلف بمهمة داخل الدولة. وعندما أراد الحسن الثاني تحديد وتوزيع مهام مستشاريه جمعهم، كما يخبرنا بوطالب، وقال لهم: “مهمتكم أن تتابعوا عمل الوزراء، وتكونوا واسطة بيني وبينهم في ما يبعثونه إلى الديوان الملكي، وتقدموه إليّ مع ملاحظاتكم عليه، وتقترحون عليّ أفكاركم بشأنه لأتخذ القرار على ضوء ذلك”. وحتى لا يقع تداخل بين مهمة المستشار والحاجب استطرد الحسن الثاني موضحا: “ليس معنى هذا أنكم ستكوِّنون حِجابا فاصلا بيني وبين الوزراء”.
لقد سعى الحسن الثاني، وهو يضع الأسس لمهمة المستشار داخل النظام الملكي المغربي، إلى الإقتداء بما هو معمول به داخل الأنظمة الغربية، أي أن يكون له أكثر من مستشار وكل واحد منهم مكلف بمجال اختصاصه. ويخبرنا بوطالب في شهادته التي دونها في مذكراته أن “(رضا) كديرة (كان) يشرف على وزارتي الخارجية والداخلية. وإدريس السلاوي على وزارات المالية والاقتصاد والتجارة والصناعة، وأحمد بن سودة على وزارتي الشبيبة والرياضة، والأوقاف والشؤون الإسلامية، وعبد الهادي بوطالب على وزارات العدل والإعلام والتعليم وشؤون البرلمان”. هذه الاختصاصات لم يكن معلن عنها رسميا، لكن المستشارين كانوا يعرفون حدود تدخلاتهم، والمستشار الوحيد الذي كان يرد اسمه مقرونا بمجال اختصاصه، في عهد الحسن الثاني، هو أندري أزولاي الذي كانت وسائل الإعلام الرسمية والبيانات الصادرة عن القصر الملكي تصفه بـ “المستشار الملكي المكلف بالشؤون الاقتصادية”. لكن داخل مجتمع النخبة السياسية والمسؤولين الحكوميين كان الفاعلون يعرفون اختصاصات باقي المستشارين من خلال مجالات تدخلاتهم والمهام التي كانت تناط بهم من طرف القصر.
ومع ذلك فإن المستشارين لم تكن لهم صفة رسمية داخل جهاز الدولة أو حتى داخل الديوان الملكي. وبالرغم من أن الحسن الثاني كان مدركا لأهمية مأسسة مهمة المستشار، إلا أنه لم يسعى إلى فعل ذلك لأنه لم يكن يريد أن يٌحدث مؤسسة قائمة بذاتها موازية أو منافسة له في صنع القرار أو على الأقل معترف بها لاقتراح الرأي والمشورة. فبالنسبة له فالمستشار ما هو إلا موظف عند الملك، وليس عند الدولة. وهنا يكمن الفرق الكبير، لأن الملك من حقه أن يغضب أو يهين أو يغير مستشاره مثلما يغير جواربه. ولنا في ما هو متواتر من قصص من داخل البلاط الكثير من الأمثلة عن غضب الملك الراحل على مستشاريه وإهانته لهم وإذلالهم ومعاقبتهم كما كان يعاقب السيد عبده، وهو، بالفعل، كان يتعامل معهم كما يتعامل مع خدمه وعبيد قصره. ومن بين القصص المتواترة والمنسوبة إلى من عايشوها إجبار الملك مستشاريه المغضوب عليهم المكوث في إسطبلات الخيل داخل القصر وتوسل الملك ليعفو عنهم، ومن بينهم ما كان يدخل مجلس الملك وهو يزحف على أربع حتى يتمسح بحذاء الملك، ويعلن أمام الملأ من الحضور بأنه “عَبدْ مْشرَّط لَحْناك” جاء يستدر عطف سيده ومولاه.
كتيبة المستشارين
لكن “كتيبة المستشارين” وبحكم قربهم من الملك سيكتسبون سلطات واسعة غير منصوص عليها لا في الدستور ولا في قوانين المملكة، حتى أصبحوا يشكلون ما كان يطلق عليه سابقا في الأدبيات السياسية المغربية بـ “حكومة البلاط”، في عهد الملك الحسن الثاني، و”حكومة الظل” في عهد الملك محمد السادس، وذلك في إشارة إلى وجود حكومة موازية ونافذة داخل القصر مقابل “الحكومة الدستورية” التي تمثل الجهاز التنفيذي، لكن بدون مهام تنفيذية حقيقية.
ففي عهد الحسن الثاني شكل مستشاروه الأربعة الأقوياء، أكديرة والسلاوي وعواد وبوطالب، ما كان يطلق عليه آنذاك في أدبيات المعارضة اليسارية بـ “حكومة البلاط”، التي كان نفوذها أكبر من سلطة كل حكومة بما فيها حكومة صديق وصهر الملك أحمد عصمان في نهاية سبعينات القرن الماضي.
ويذكر لنا بوطالب في مذكراته أن الوزراء كانوا يحضرون آنذاك “إلى مكتب المستشار المختص بوزارتهم ليتناقشوا معه من دون أن يخاطبوا الملك مباشرة”. ومع ذلك يقول بأنهم كمستشارين لم يكونوا يمارسون الحكم، لأنهم لا يملكون سلطة القرار التي يملكها الوزراء الذين يمضون على القرارات والمراسيم. لك، في الواقع، كان المستشارون يملكون سلطة أكبر من تلك يملكها الوزراء، بحكم أنهم يوجدون “بجانب أعلى سلطة في الحكم”، كما يؤكد على ذلك بوطالب نفسه الذي يستشهد بمقوله لإدريس المحمدي (المدير العام للديوان الملكي في عهد الحسن الثاني) الذي كان يقول: «أفضل أن أكون مديرا للديوان الملكي حتى أتكلم في أٌذن الحٌكم».
حكومة الظل و رجال الظل
لكن نفوذ المستشارين سيتضخم في عهد الملك محمد السادس، إلى درجة أن هذا النفوذ أصبح يشكل ما بات يطلق عليه في وسائل الإعلام المستقلة بـ “حكومة الظل” التي تنافس الحكومات الدستورية التي تعاقبت على إدارة الشأن العام خلال الخمسة عشرة سنة الماضية.
وخلال حكم الملك الحالي برزت أسماء مجموعة من المستشارين، لكن ما سيطبع أسلوب الملك محمد السادس هو اعتماده بالدرجة الأولى على أصدقائه وزملاء فصله في الدراسة في “المدرسة المولوية” بالقصر الملكي. وسيتم التغطية على ضعف المستشارين الجدد وعدم كفاءتهم بخلق لجان ملكية ومجالس استشارية ملكية قرب الملك، كقوى اقتراحية يتم اللجوء إلى استشارتها عند الحاجة. أما دور المستشار كفرد صاحب تجربة وخبرة وكفاءة فيكاد يختفي ليتحول إلى دور جديد هو دور “العراب” أو “الوسيط” حسب قوة ونفوذ المستشار. وهكذا برز مشتشارون ملكيون كوسطاء مثل حسن أوريد، رغم أنه لم يحمل صفة مستشار، إلا أنه بحكم موقعه السابق كناطق رسمي باسم القصر الملكي، وقبل أن يتم تجريده من كل مهامه الرسمية، لعب دور الوسيط مع الحركة الأمازيغية لتليين مواقفها وإدخالها إلى بيت طاعة المخزن من خلال “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” الذي ساهم في تدجين وترويض أغلب الأصوات الأمازيغية المعارضة. كما برز اسم المستشار الملكي التكنقراطي عبد العزيز مزيان بلفقيه، كوسيط في ملف التعليم، ساهم في شراء صمت الكثير من الأصوات النقابية والحزبية، بما فيها صوت رئيس الحكومة الحالي عبد الإله بنكيران، لتمرير تصور القصر لإصلاح المنظومة التعليمية وهو التصور الذي كشف عن عيوبه وقصر نظره بعد عشر سنوات من تطبيقه كان ضحيتها جيل كامل من أبناء بسطاء الشعب ممن درسوا في التعليم العمومي. أما وظيفة “العَرَّاب” فسيتولاها أكثر المستشارين والمساعدين قربا من الملك. وهكذا سيبرز اسم الكاتب الخاص للملك محمد منير الماجدي كـ “عرَّابٍ” للنخب الاقتصادية الجديدة. بينما سيمارس فؤاد عالي الهمة، حتى قبل تعيينه رسميا في مهمة “مستشار ملكي”، دور “عرَّابِ” النخب السياسية في عهد الملك محمد السادس. وسيقوم كل من هؤلاء المستشارين “الوسطاء” و”العرابين” بدور مهم في بداية عهد الملك الحالي لاستقطاب النخب الجديدة التي تشكل اليوم النواة الصلبة للحكم في المغرب.
وإلى جانب هؤلاء المستشارين الذين لعبوا دور العرابين والوسطاء ستبرز أسماء أخرى لمستشارين “وظيفيين”، أي لهم مهام وظيفية محضة مثل المستشارة زليخة نصري، المكلفة بالقضايا ذات الطابع الاجتماعي، ومحمد المعتصم المكلف بالقضايا القانونية والدستورية، قبل أن يهمش ويختفي عن الأضواء لدرجة أن تهمشه انعكس على حالته النفسية، حسب مصادر موثوقة.
لكن عهد الملك الحالي عرف أكبر عدد من المستشارين، مقارنة مع عهد والده. فطيلة السنوات الخمسة عشر من عهد محمد السادس عرف القصر الكثير من المستشارين والمكلفين بمهمة داخل القصر الملكي، وهي وظيفة جديدة أحدثت في عهد الملك الحالي. وهكذا يمكن أن نحصي إلى جانب المستشارين السابقين أسماء مستشارين آخرين منهم من مازال يحمل هذه الصفة ومن بينهم من تم إبعادهم وتهميشهم، وأبرز هؤلاء: أندري أزولاي، محمد القباج، عباس الجيراري، فاضل بنعيش، رشدي الشرايبي، المدير السابق للديوان الملكي، وياسين المنصوري الذي عين كرئيس على جهاز المخابرات العسكرية، فقط لأنه صديق دراسة الملك.
وقبيل تعيين حكومة عبد الإله بنكيران نهاية عام 2011، سيبادر الملك إلى تجديد “طاقم” مستشاريه ويعين بصفة رسمية صديقه فؤاد عالي الهمة، مستشارا له، كما عين في نفس المنصب وزير السياحة السابق ياسر الزناكي، الذي لا تعرف حتى اليوم مؤهلات تعيينه ولا طبيعة الملفات التي يتولى تدبيرها. ودخلت إلى حلبة المستشارين الجدد أسماء أخرى مثل الطيب الفاسي الفهري وزير الخارجية والتعاون السابق، وعبد اللطيف المنوني، رئيس اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، وعمر عزيمان زميله في نفس اللجنة، ووزير في حكومات سابقة، ورئيس لجنة استشارية لإعداد مشروع الجهوية الموسعة، والراحل مصطفى الساهل، ووزير الداخلية الأسبق.
هذا الجيش من المستشارين دفع الصحافة المستقلة إلى وصفهم بـ “حكومة الظل” التي نصبها الملك لمواجهة أول حكومة يرأسها حزب إسلامي، ويقودها رئيس للحكومة بالاختصاصات التي يخولها له الدستور الجديد. وبما أن المواجهة التي كانت متوقعة حول تنازع الاختصاصات ما بين الملك ورئيس الحكومة لم تقع، توارى إلى الخلف دور الكثير من هؤلاء الجيوش الاحتياطية التي تحولت في أغلبها إلى عالة على ميزانية الدولة.
ولو أردنا أن نٌقيم مقارنة سريعة ما بين مستشاري الملك الراحل والملك الحالي، فإن ما يميز بين الوضعين هو كون المستشارين في عهد الملك الراحل كانوا بمثابة رجال ظل، يشتغلون في الخفاء وغالبا ما كانوا يخرجون إلى العلن، مع استثناء واحد شكله رضا اكديرة، صديق الملك الراحل، الذي كان يقوم بإيعاز من القصر بالرد على المعارضة والتهجم عليها على أعمدة صحافة القصر. أما المستشارين في عهد الملك الحالي فتحولوا إلى حكومة ظل تتدخل حتى في تعيين وزراء الحكومة الدستورية.
قَتْلٌ السياسة
وفي كلتا التجربتين فقد ساهم المستشارون الملكيون سواء كأفراد نافذين أو كـ “حكومة بلاط”، في إضعاف الحكومات الدستورية، وفي فقدانها لمصداقيتها أمام الرأي العام، وبالتالي التأثير على ثقة المواطن بالمؤسسات الدستورية وفي كل ما يمكن أن ينتج عن العمل السياسي. وتحول القرب من “المحيط الملكي” إلى أسرع طريق للوصول إلى مغانم السلطة، وهو ما أدى إلى إفراغ الأحزاب السياسية من كوادرها وإلى استقطاب نخب المجتمع من طرف هذا “المغناطيس” الجاذب للمعادن النفسية داخل الأحزاب والمجتمع.
وإذا كانت نتيجة هذه الإستراتيجية القائمة على استقطاب النخب من طرف المخزن، منتجة بالنسبة للقصر على المدى القريب، بما أنها تساهم في إضعاف الأحزاب، وإفراغ المجتمع المدني، وتهميش الحكومة والمؤسسات الدستورية الأخرى، مقابل تقوية الدور المركزي والمحوري للقصر، إلا أنها قاتلة على المدى البعيد لأنها تعمل على تكريس عدم ثقة المواطن في العمل السياسي وقَتلِ السياسة، وتعميق هوة الفراغ الذي لا يمكن تَوقٌّع ما قد يفرزه من مفاجئات ليست دائما سارة.
1-المستشار.. وظيفة وهمية!
لا يوجد في الدستور المغربي ما يشير إلى اختصاصات المستشار الملكي، أو تعيينه الذي لا يخضع إلا لسلطة واحدة هي سلطة الملك. أما رئيس الحكومة فلا يتدخل في تعيين المستشارين بالديوان الملكي إلا من خلال نشر ظهير التعيين في الجريدة الرسمية التي تصدر رسميا عن الحكومة.
ورغم أن المستشار الملكي يتقاضى راتبه من الميزانية العامة للدولة من خلال ميزانية القصر الملكي التي يصادق عليها البرلمان، إلا أنه لا يوجد في الدستور أو القوانين ما ينظم هذه المهمة أو يؤطر عمل أصحابها.
طرح السؤال حول غياب الإطار القانوني الذي يؤطر مهمة المستشار الملكي، ينبع من كون صاحب هذه الوظيفة ليس مجرد موظف شبح مثل العديد من المستشارين الأشباح الذين يملئون الوزارات والمجالس واللجان الاستشارية، بما أن لهم وضع اعتباري وبروتوكولي، يحضرون المراسيم واللقاءات الرسمية والمجالس الوزارية التي تعتبر بمثابة مؤسسة دستورية، ويقرؤون الرسائل الملكية التي تكون حاملة لقرارات وتوجيهات من الملك إلى المؤسسات الدستورية الأخرى بما فيها الحكومة والبرلمان والقضاء.
ورغم أن المستشار الملكي يعين بظهير شريف، لكن لا وجود لنص قانوني أو في الدستور ينص على ذلك. وحتى في الفصل 49 الذي يتناول التعيينات في المناصب الكبرى داخل المجلس الوزاري، والتي تتم حسب ما ينص عليه الدستور باقتراح من رئيس الحكومة، أو بمبادرة من الوزير المعني، لكن من بين كل هذه التعيينات لا يوجد ما يشير إلى تعيين المستشار الملكي.
وتكمن خطورة وحساسية هذا المنصب في كون صاحبه يمكن أن يعلب دورا حاسما في تحديد بعض الخيارات أو صناعة بعض القرارات التي التي يكون لها تأثير مباشر على السياسات العمومية، ومع ذلك فهو لا يخضع للسؤال أو المراقبة من أية جهة مؤسساتية.
ولقد رأينا في السنوات الأخيرة كيف كان دور بعض المستشارين الملكيين في حسم قضايا مهمة واستراتيجية مثل قضية المرأة، وإعادة هيكلة الحق الديني، ومراجعة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سنوات الجمر والرصاص، وقضية الصحراء، والقضية الأمازيغية، وقضية التعليم، وأخيرا وليس آخرا صياغة الدستور الذي يعتبر أسمى قوانين البلاد، وأسندت رآسة لجنة صياغته إلى مستشارين ملكيين.
ويتعاظم دور المستشار الملكي عندما نعرف أنه يشتغل داخل ولحساب المؤسسة الملكية التي تعتبر، حسب دستور 2011، المؤسسة المركزية داخل بناء النظام المغربي، ومازالت تشتغل حسب تقاليد وأعراف تضعها في عمق وجوهر كل الخيارات السياسية والدينية والأمنية والمجتمعية والاقتصادية الكبرى للدولة.
كما لم يعد خافيا تدخل المستشارين الملكيين في السياسة العامة للدولة، وقد سبق لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران أن اعترف في حوار صحفي، أن “فؤاد عالي الهمة (مستشار الملك) له مكانة خاصة والجميع يعرف هذا، وسواء تعلق الأمر بالحكومة الأولى أو الحكومة الثانية فإنه قام بدور كبير في التشاور، وأسهم في الوصول للصيغة النهائية لهذه الحكومة، ولكن أي شيء لم يكن يجري من دون اطلاع جلالة الملك، والحصول على إذنه”.
وعلى حد رئيس الحكومة فإن المستشار الملكي يبقى صاحب “مكانة خاصة” لا يؤطرها أي قانون ولا يخضع لمراقبة أية سلطة سوى سلطة الملك التي تعتبر في النظام المغربي سلطة شبه مطلقة، وبالتالي فمن يعملون تحت إمرتها يتمتعون كما يمكن أن يتأذون بما لها من سلطات مطلقة.
2-المٌستشار الذي لا يٌستشار
ما هو مؤكد هو أن ليس كل مستشاري الملك لهم نفس السلطات والنفوذ، فاغلبهم مجرد موظفين داخل البلاط الملكي، بلا مهام ولا اختصاصات. وفي عهد الملك الحسن الثاني برز اسم مستشاره وصديقه رضا كديرة كأقوى مستشار، كانت الصحافة الفرنسية تلقبه بـ “المستشار الخاص للملك”. وهو ما كان يثير حفيظة باقي المستشارين. أما في عهد الملك محمد السادس فإن صديقه فؤاد عالي الهمة فيعتبر بمثابة “الرجل القوى” داخل المربع الملكي. وفي كلتا الحالتين فإن ما يعطي للمستشار الملكي قوته ونفوذه هو قربه من الملك.
ويتذكر عبد الهادي بوطالب، أن رضا كديرة كان يتميز عن سائر المستشارين بـ “الاستئثار بكبريات الرتب وبتوسيع دائرة اختصاصاته”، ويعزو بوطالب ذلك إلى كون كديرة وإدريس السلاوي كان صديقين للملك، فكان يخلو بهما “ويَخصُّهما بالتشاور في بعض قضايا الأمن أو تشكيل الحكومات”. فيما كان يخص باقي المستشارين ومن بينهم بوطالب نفسه بـ “تحرير رسائل الملك” أو حملها إلى الملوك والرؤساء.
وبسبب هذا التمييز في المهام بين المستشارين داخل البلاط الملكي، غالبا ما كانت تنشب بينهم حروب تافهة، أحيانا للتسابق على من سيحظى بتحرير واحدة من تلك الرسائل الملكية وأغلبها لا قيمة لها، ومع ذلك يعمدون إلى الدسائس فيما بينهم للتقرب من الملك وإظهار ولائهم له أكثر من منافسيهم داخل نفس البلاط. وفي هذا السياق يتذكر مستشار آخر هو علال سي ناصر، أن أحد المستشارين اشتكاه للملك لأنه لم يكن يوزع ما يرده من الديوان الملكي من رسائل موجهة إلى باقي المستشارين. وفي سياق المناورات التي كانت تحتدم بين المستشارين يحكي سي ناصر أن الملك الراحل اتصل به ذات مرة بعدما لاحظ خللا في ترجمة أحد النصوص، لكنه سيفاجئ بأن النص الذي نسبت إليه ترجمته لم يكن هو من ترجمه، وإنما هناك من “تطوع” بترجمة غير أمينة للإيقاع به عند الملك.
وعدا هذه المهام الوظيفية التي يمكن أن يقوم بها أي موظف بسيط في الدولة، فإن أغلبية المستشارين مجرد موظفين أشباح داخل البلاط الملكي. وحسب شهادة بوطالب فأن يكون المرء مستشارا للملك لا يعني أن الملك يستشيره “في كل ما يتخذه من قرارات وتدابير، وأن يطلب منه أن يقول رأيه في الشاذَّة والفاذَّة، أو أن يعمل برأيه في كل شيء”.
وما هو مؤكد أن المستشار في البلاط الملكي هو مجرد موظف، حتى بالنسبة للمستشارين أصحاب الحظوة عند الملك، فلم يكن لهم حق إبداء رأيهم إلا عندما يطلب منهم ذلك. أما عن “بطولات” الجرأة التي يحكي عنها البعض لتضخيم دوره كما فعل بوطالب في مذكراته، فيرد عليه سي ناصر بالقول إنه: “لم يكن جريئا إلى تلك الدرجة، بل كان يمارس جرأته تلك في حدود معينة، وإن كان لكل تقييمه لمعنى الجرأة”.