القائمة

الرأي

السلفية: مقاربة فرومية

عرف محمد عبد السلفية قبل قرن من الزمن كالتالي: "فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى". يحمل هذا التعريف كل إشكاليات المصطلح، لأنه لا يُعرف سيميائيا أي شيئ ولا يصف أي موضوع، بقدر ما يزرع أم الإشكاليات في تعريف السلفية: أكثر من هذا فإن هناك إشكالية مُضمرة في هذا التعريف من الخطورة بمكان عششت في الوعي المسلم مفادها أن "السلف" أحسن من "الخلف". وبهذا شُيد نوع من هرم "فهم الدين"، يلاحقنا إلى اليوم، لأن "الخلف" تُبع كرونولوجيا “بالمتأخرين” ثم “المحدثين” وأخيرا “المعاصرين”. يعني بأن المرء، كلما ابتعد عن "المنابع الأولى"، كلما ابتعد عن الفهم الصحيح "للدين"، وهذا أعنف ما يمكن أن يحدث في أي دين، لأنه يسجن تطور هذا الأخير في حقبة معينة ويُطالب بتوقف التاريخ، بل بنهايته، لكي يدور في حلقة أزلية على نفسه.

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

إن السلفية ليست نتيجة الصراع الإقتصادي، ولا وليدة الصراع الجنسي، بل هي مجموع ما يُشكل الفرد الإنساني في بُعده الوجودي الشامل. نوظف هنا ما وصل إليه إريك فروم في أحد كتبه الشهيرة "الهروب من الحرية"، الصادر عام 1941، حيث حلل ظاهرة دعم غالبية الشعب الألماني لهيتلر في زمانه، على الرغم من أنه لم يخف أبدا عنصريته وتوجهه الديكتاتوري. طبقا لفروم، فإن هناك آليات نفسية عميقة ومعقدة تتحكم في نشوء وانتشار أي توجه متطرف، وبما أن كل خصوصيات الديكتاتورية متوفرة بكميات كافية في السلفية، فإنها محكومة أيضا بهذه الآليات النفسية، التي لا يصعب على أي باحث سيكولوجي استقرائها في هذه الظاهرة. وأخطر آلية نفسية توظفها السلفية عامة هي اضطهاد الفرد كفرد وعدم الإعتراف له بخصوصياته الذاتية و"أناه" الخاص، الذي يميزه عن الآخرين. ولهذا السبب بالضبط تُحارب كل الميولات الفنية الفردية من شعر وسينما ونحت إلخ. هذه الميولات هي التي تشكل الفرد كفرد، أي كإنسان، له إحساس و مشاعر والرغبة في المتعة الفنية والتمتع بوجوده. ما يهم التوجه السلفي هو تعطيل كل ميل للفرد نحو التحرر، بل تحاول بكل ما أوتيت من قوة ربطه وتجميده، كما ربطت الدين بـ "المنابع الأولى". على الفرد أن يبقى في الإستراتيجيات اللاواعية للسلفية في المرحلة الماقبل أوديبية، أي أن يبقى في صبى أزلي وفي مرحلة فمية وسادية مازوخية، قوامها الطاعة والخضوع والتبعية لـ "لخليفة"؛ الذي يفرض نفسه كمثال لـ "الأنا" الفردي ويقوم بدور الأب الحنون والقوي. وهذا جزء من تفسير إشكالية انظمام فئة عمرية معينة من الشباب للحركات السلفية وبالخصوص الجهادية منها، قابلة عن طواعية الخضوع الإستبدادي، الناتج عن تطوير ألية تنظيمية للتحكم تُسمى التراتبية الإستبدادية، أي الطاعة العمياء لـ "لأمير"، الشخص الوحيد الذي ينفرد بإصدار القرارات و يطالب بتنفيذها بالحرف ودون مناقشة، تماما كما يطالب بفهم وتطبيق النص القرآني بالحرف.

"الأمير" السلفي، تماما كأي ديكتاتور، هو إذن شخصية متسلطة سادية، بالمعنى الذي يعطيه فروم لهذا المصطلح، حيث ربطه بمفهوم آخر وهو الكبت الجمعي. وكزميله ماكس هوركهايمر ، يؤكد فروم بأن من أسباب النزعة العدوانية التي تنمو منذ الطفولة هو كبت حاجات الطفل من طرف العائلة التقليدية، تحت وطأة الضغوطات الإجتماعية والكبت، الذي يولد عدم التماثل مع المجتمع والإنسجام فيه والتكيف مع البنى التراتبية. وفي غياب أية إمكانية ليعيش المرء فردانيته، يتتبنى "نمط التفكير" السائد، لأنه أسهل وسيلة ليعيش "سليما" عقليا ونفسيا وجسديا في فضاء ديكتاتوري محظ.

إذا استحضرنا أفكار فروم في دراسته لخصوصيات الشخصية المتسلطة، فإننا لا نتفاجأ إذا لاحظناها في طرق تفكير وعمل وسلوك "أمراء السلفيين"، نفس الخصائص. فتمركز "السلفي" على ذاته وعرقه وتعلقه بالماضي بتعصب وتصلب ضد قيم عصره والإيمان بالحتمية والقدرية وتركيز الإهتمام على القضايا الجنسية بطريقة متجاذبة: تحليل "جهاد النكاح" وتحريم ما عداه، حتى الزواج الشرعي في محاكم السلطات القائمة والإستخفاف بالإثنيات والأقليات والأديان الأخرى وهاجس الطهارة والنقاء وهذيان التطهير. إضافة إلى هذا فإن هاجس الهوية حاضر بقوة في الفكر السلفي، لكن بطريقة سطحية بدائية: خير أمة أخرجت للناس. وهذا الهاجس هو الذي "يُحَلِّل" له معاداة ونفي وإبادة كل مَا ومَنْ يهدد وهم تناغم و وفاق الأمة. للإشارة فإن الوهم في التحليل النفسي ليس هو الإدراك المخلوط للحقيقة، بل هو تحقيق لرغبة لاشعورية وتعويض ﻟﺫﻴﺬ لحقيقة مريرة. ونتيجة هذا هو ظهور "ميكروفاشية" علنية عند أتباع "السلفية" الجهادية، يمارسنوها في حياتهم العادية اليومية اتجاه الآخرين، مساهمة في الضجر والسؤم الإنسانيين ورعايتهما وبالخصوص البؤس الجنسي، المتمظهر في المكبوت الإنفعالي في شكل تدفقات عدوانية أو هوس ديني، الذي يمجد الألم والخنوع ويحتقر اللذة ومباهج الحياة ويعظم التضحية وغريزة الموت. إنه إذن قمع واضح للجسد والتباري في وسائل تجريمه في شكل فتاوى تحرم ما تريد وتحلل ما طاب لها، دون وعي منها بأنها بهذا تنتج نماذج منحرفة وغير سوية.

هناك أساس نفسي لا يقل أهمية عن سابقيه في التركبة النفسية الإدراكية للفاشي "السلفي الجهادي"، تتمثل في إدراك حالة التخلف الإقتصادي والتقني والبشري "لأمته"، وهو إدراك يُصاحبه فهم صعوبة، بل استحالة تدارك هذا التخلف، وبذلك يُشعِل لاوعية الآليات الدفاعية الإنعكاسية، التي تنتج الشعور بالتعالي عن الآخرين والإعتقاد في كون الإسلام هو الدين الصحيح الوحيد الذي يجب على الإنسانية اعتناقه والهجوم على الآخرين المختلفين واعتبارهم شبه بشر على أكبر تقدير وإلصاق كل الرذائل الأخلاقية لهم، أقلها كونهم مجتمعات منحلة خلقيا أو طاغية، ولهذا السبب يَحِلُّ، بل من الواجب، استعمال العنف "الجهاد" ضدها.

منبر

الدكتور حميد لشهب
عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية
حميد لشهب
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال