أبيات قد تعبر تعبيرا دقيقا عما حدث في السنوات الأخيرة في بعض الدول العربية، و هي أحداث كان ظاهرها يوحي بأنها أتت فجأة و حار المحللون في فهم "اندلاعها" و انتشارها بسرعة. لكن هذا "الإندلاع" لم يكن تلك الشرارة المشحونة بالطاقة اللازمة المميزة لجل الثورات التاريخية، لأن خصوصيات الثورة الحقيقية كانت غائبة: تصور أيديولوجي، قائد ثورة و شعوب مؤمنة بأهداف الثورة و مستقبلها و قدرتها على المقاومة الداخلية و الخارجية إلخ. كانت انتفاضات احتُويت و نُسِفَت من الأمل في تحرير رقبة الشعوب من عبوديات لا حصر لها، لأنها قُيِّدت بمُثُل غريبة عن تربتها الأصلية، توهم الشعوب العربية بأن كل تاريخ البشرية لابد أن يتبعها و يمتثل لأوامرها و نواهيها، لأنها تقدم نفسها كالمثال الأعلى الذي لا بديل له. و الحق أن كل المنظومة الغربية، التي يحاول المرء تسويقها طبقا لمنطق العولمة، ما هي في العمق إلا أداة كولونيالية جديدة، همها الأول و الأخير هو إحكام قبضتها على مجموع الكرة الأرضية اقتصاديا و سياسيا.
ها قد خَمِدَت، بعد طمسها، تلك الشعلة العربية الغاضبة، و رجعت الأمور إلى نقطة الصفر من التغيير، بل أُقحمت البلدان العربية في ديكتاتوريات جديدة، أكثر شراسة و بطشا من كل الديكتاتوريات التي عرفتها في تاريخها الطويل، لأنها "تُدَكْتِرُ" باسم "حقوق الإنسان" و "الحرية" و "الديمقراطية" و "التعددية" إلخ. و لعل المتشائم منا قد يزعم بأن لا أمل في التاريخ و لا في الإنسان العربيين، لكن الواقع هو أن الأمل ينبثق من خيبة الأمل هذه و يشحن الروح العربية بطاقات هائلة، لا تنتظر إلا الفرصة لتتفجر من جديد في شكل حركات تغيير يكون قوامها و فاعلها الأساسي هو الإنسان العربي ذاته.
هناك شيئان ضروريان من اللازم القيام بقطيعة راديكالية معهما قصد تهييئ المناخ لظروف إيقاد تلك النار "المقدسة" التي تقود إلى حركة "بعث" جديدة، قوامها الإعتماد على الذات و شعل فتيل هذه النار بلهيب أصابع الإنسان العربي و سقيها بزيت الروح العربية. القطيعة الأولى تخص الغرب، و الغرب بالذات، لأنه يرى في كل حركة تحرر عربية خطرا حقيقيا على مصالحه، و لربما على وجوده. و هذه القطيعة ممكنة من طرف الشعوب العربية و ليس من طرف حكامها الحاليين. و من اللازم أن تمس القطيعة القلب النابض للغرب و السلاح الفتاك الذي يقطع به رؤوسنا و يقلم أظافر "حكامنا". و نقصد بصريح العبارة إعلان "إضراب" جماعي على كل المنتوجات الغربية، لأن هذه المنتوجات أقحمتنا على الرغم من أنوفنا في "حمى" استهلاكية "مرضية" و تكبل أيدينا بصفود لا حصر لها، تكرس تبعيتنا و لاوعينا اتجاه أية سلعة قادمة من الغرب. إذا بنينا وعيا قوميا يرفض الإستهلاك جملة و تفصيلا و خرجنا فرادى و جماعات من ديكتاتوريات وهم "الإزدهار" و "التقدم" و "الرفاهية" بالمزيد من الإستهلاك على حساب منتوجاتنا القومية و بيئتنا و محيطنا الإجتماعي، فإن كسب الرهان يكون في المتناول. بنفس الطريقة التي ندعو فيها إلى مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية، لابد من القيام بنفس الشيئ و وعي كون مقاطعة المنتوجات الغربية شيئ بسيط، قد يبدو ساذجا؛ يطالب المحروم الإستغناء عن آلات منزلية و وسائل نقل و منتوجات غذائية أثبت التجربة بأنها غير صحية بالمرة، كيفما كان جمال تعليبها و تسويقها و الدعاية لاستهلاكها. كل فرد عربي قادر على هذه المقاطعة إذا أشعل مصباح ضميره و مصيره و تخلص من كل التناقضات الوجودية و العاطفية اتجاه الغرب. لا نطالب الإنسان العربي أكثر من "الجهاد الأكبر" ضد المنتوجات الغربية و التركيز على استهلاك المنتوجات المحلية، الغير المُنتجة آليا و بكميات هائلة، لا يهمها منطق العرض و الطلب، و لا جودتها و لا مكوناتها الكيماوية و ما ينتج عن ذلك من عاهات صحية؛ بقدر ما يهمها التسويق و الترويج و بيع أكبر كمية ممكنة من البضائع لأكبر عدد ممكن من البشر في كل بقاع العالم باسم "العولمة".
القطيعة الثانية هي قطيعة داخلية، لا تقل أهمية عن القطيعة الأولى، و هي القطيعة التامة مع الأحزاب السياسية الحالية بكل تلويناتها و تشكيلاتها، فليس في القنافذ من هو أملس، و ليس في أي حزب حالي أي خير (أكان يوهم بأنه يتكلم باسم "الله" أو باسم "الديمقراطية")، لأنها كلها و بدون استثناء أيادي إضافية للديكتاتوريات الغربية و منها من يخدم مباشرة التغلغل الإمبريالي تحت أقمصة متعددة. كل الأحزاب السياسية العربية هي عبارة عن بهلاوانات قصور رئاسية و بلاطات الأمراء و الملوك. نُوهَمُ بالديمقراطية بالنظر إلى تعدد الأحزاب و تعدد أيديولوجياتها و نعرف بأن هذه الأحزاب هي أدوات طيعة في أيدي أسيادها. لم "يُقضَ" على حكم الفرد الواحد و تفرده بتسيير شؤون الشعوب دون سواه، رغم كل التلوينات و الصباغات التي تطلى بها جدران اللعبة السياسية في الدول العربية. أصبح شعار الديمقراطية في كل الدول العربية أداة ديكتاتورية و أصبحت حقوق الإنسان خدعة و لربما لعبة نسلي بها أنفسنا، مُقحمة إيانا في عوالم نحلم بها بالحرية و نحن عبيدا و بالصحة و نحن مرضى و بالشغل و نحن عاطلين و بالتعليم و نحن جاهلين إلخ. من "يناضل" باسم هذه "الأفكار الأيديولوجية"، لا يقوم في واقع الأمر إلا بالإستخفاف بعقله و منطقه و ملكة الحكم فيه. لا توجد أية حكومة عربية تؤمن بمثل هذه الأشياء، على الرغم من أنها ترفعها كشعارات يومية، زاجة بنا في مغالطات لا حصر لها و مستخفة بعقلنا و فكرنا و قدرتنا على التمييز بين الأبيض و الأسود. البديل الحقيقي هو إعلان طلاق لا رجعة فيه مع الأحزاب السياسية، لتجد الأنظمة نفسها وجها لوجه مع الشعوب و مع التاريخ.
ثورة الأمل هذه هي تلك التي تساهم في وعينا بذاتنا، بإمكانياتنا و بقصورنا، لننمي هذه الإمكانيات و نتجاوز هذا القصور، ليس بالرجوع إلى ماض توهمنا بعض الجهات بأنه كان منيرا، في الوقت الذي كان فيه في العمق سبب تطور هذه الديكتاتوريات حيث نعيش؛ و ليس بالإرتماء الأعمى في أحضان غرب ليس له أي حد أدنى لاحترامنا لا كأفراد و لا كشعوب. و الأمل المقصود هنا ليس هو التمني و لا انتظار حياة أحسن في رقعة جغرافية ميثولوجية، بل المرور من التمني إلى الفعل الثوري الجاد و المسؤول و البعيد المدى، دون إراقة للدماء و لا التقاتل الداخلي من أجل مصالح فردية، بل وعي كون المصلحة العامة التي تضمن العيش الكريم لكل فرد فرد هي الأساس، بالإستغناء الواعي عن الثانويات التي يوهمنا منطق الإستهلاك الغربي بأنها أصبحت من الضروريات و عن شطحات بعض الأحزاب السياسية التي توهم بأنها تتكلم باسم شريحة عريضة من الشعب، لكنها في العمق مبتورة الجذور و بعيدة عن أية قاعدة شعبية.