القائمة

الرأي

الشك و نقد المجتمع في فكر مارتين هيدجر لهانس كوكلر

صدرت في بداية عام 2013 عن دار النشر و الترجمة و التوزيع "جداول" ببيروت الترجمة العربية لكتاب الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر "الشك و نقد المجتمع في فكر مارتين هيدجر". أعد الترجمة الدكتور حميد لشهب، باحث مغربي مقيم في النمسا، و صاحب الكثير من الترجمات من الألمانية إلى العربية في ميدان الفلسفة و علم النفس. يقع الكتاب في 264 صفحة من الحجم المتوسط. و هو تقويم معرف/نظري نقدي لفلسفة الكينونة، بأخذ فلسفة الكينونية لهيدجر بعين الاعتبار. و قد وضح الكاتب هذه الأخيرة في إشكالياتها الرئيسية بصفتها إشكالية "الميتافيزيقا" وإشكالية "الله"، وكذا اهتمام هيدجر بالماركسية. وفي هذه الإشكاليات المحورية يرتكز عنده مضمون إشكالية طرحه النقدي في علاقته بـ "نقد مجتمعي" عميق.

نشر
DR
مدة القراءة: 6'

بهذا وصل كوكلر إلى أساس جديد لتقويم العمل الفلسفي الكينوني الهيديجيري، وهو أساس يتضمن قبل كل شيء، تطوير الأبعاد المعرف/نظرية لفلسفته. ويعتمد هذا الكتاب إلى حد كبير على تطوير العمل الفينومينولوجي المتعالي، ذلك أن Logos (العقل) في الفينومينولوجيا، كما تؤسسها الأنطولوجيا الوجودية، هو "شك" في معنى تحفظ أخير اتجاه التمرير الساذج للأسس الفينومينولوجية للتجربة في العالم.

قدم هيدجر في تفكيره حول الكينونة نقدا جوهريا للحضارة التقنية لم يسبق له نظير في الفلسفة الغربية. ففي محاولته تحرير إشكالية كينونية الوجود من التصورات الذاتية الإرادية وتجاوز "نسيان الكينونة" للغرب، وصل هيدجر إلى أخذ مسافة نقدية اتجاه الفكر المعاصر المادي ـ الأداتي، الذي يحاول التحكم في كل شيء و تطويعه ، والذي يجد تعبيرا صارخا عنه في عولمة القرن الواحد و العشرين.

تتضمن الأنطولوجيا الأساسية الهيديجيرية، والتي لم تكن ممكنة إلا بتحليل الأساليب الكينونية للوجود هنا ("التحليل الوجودي")، بُعدا نقديا للمجتمع. وبما أن الأمر كان يتعلق عنده بتحليل جوهري شامل للعالم (الوجود في العالم in der Welt sein) وللمعرفة/التجربة الكينونية المتجلية فيه، فإن المفاهيم الفلسفية التقليدية لم تعد كافية بالنسبة له. في "الكينونة و الزمن"، وبالخصوص في فكره بعد "الإنعطاف/الرجوع die Kehre). اعتمد هيدجر مصطلحات خاصة به، كانت ضرورية بالنسبة له، نظرا للتغير الراديكالي في وجهات نظره، التي حاول عن طريقها التأثير في الفكر الذي لم يعد يريد إطلاق مصطلح "فلسفة" عليه. لم يعد من الممكن وضع المصطلحات الفلسفية موضع تساؤل انطلاقا من هذه الفلسفة ذاتها في نظر هيدجر، الذي حاول ـ إذا حاولنا إعادة بناء ما كان يصبو له ـ فهم الواقع الغربي الفعلي. وهنا بالضبط يكمن موقفه الرافض للفلسفة السابقة عليه.

من أجل "هدم" الميتافيزيقا الغربية، أو كما حدد ذلك فيما بعد "من أجل تجاوزها"، كان عليه الاهتمام "الجوهري" باللغة وبالفكر الذي يؤسسها أو الذي يتأسس عن طريقها. هذه هي إذن نواة اهتمام هيدجر باللغة (أي اهتمامه بالأصل الإيثيمولوجي للغة، وبالخصوص فيما يتعلق بمصطلحات الفلسفة، كما بين ذلك مثلا في تحديده للمصطلح الإغريقي "الحقيقة alétheia) كغير مُضمر. ويتجلى الاستعمال الغريب للغة عند هيدجر في تحديده لمعاني جديدة كامنة في الاستعمال العامي لبعض المفردات وخلق مصطلحات جديدة كل الجدة منها. كمثال على ذلك حديثه عن التقنية "كرف Ge-stell" (في معنى الإنتاج والتحديد الصدفويين لشروط الحياة ولتصور الحياة المرتبطة بها "لنسيان الكينونة" أو حديثه عن الكينونة " باعتبارها حدثا Ereignis" بالرجوع إلى الجذر الألماني القديم لهذه الكلمة "الإبصار eräugnis" [ يعني وضع الشيء أمام العينين] في ارتباطها بالمعنى الشعبي لكلمة "الحقيقي أو الفعلي أو الواقعي eigentlichen".

في محاولة وضع الفهم الغربي للواقع موضع تساؤل بطريقة شمولية، وليس فقط بالنظر إلى الأبعاد الفردية الخاضعة للتحول الحضاري المحدد مصلحيا لعالم الحياة، أصبح هيدجر ـ دون قصد إلى حد ما ـ وسيط الفكر الإغريقي المبكر في القرن العشرين. كان الهم الفلسفي الأساسي لهيدجر المتأخر (بعد ما سمي "بالعودة/الإنعطاف/الرجوع Die Kehre") هو إظهار كون "نسيان الكينونة" (يعني اعتبار الكينونة بصفتها وجودا ما طبقا لتصور إرادي للعالم) تبدأ مع تعاليم الأفكار الأفلاطونية التي يعتبرها هيدجر بطريقة ميثالية بمثابة تقابل للتصور قبل السقراطي الأصلي. ونلمس في دور هيدجر باعتباره وسيطا بين عصور غابرة وعصرنا هذا تقاربا بينه وبين ما قام به الفلاسفة العرب في العصر الوسيط. فكما فتحت الفلسفة العربية الوسيطية الطريق للفكر الأوروبي المسيحي للوصول إلى النصوص الإغريقية الكلاسيكية، ممهدة بذلك الطريق "للنهضة" الأوروبية، فإن هيدجر قد فتح الطريق للحضارة الغربية الصناعية للوصول إلى الفكر الإغريقي المبكر، وإلى تصوره الحدسي للعالم، آخذا مسافة نقدية من الفهم الغربي المُسَلَّم به، والذي يركز على الذات وعلى إرادتها الذاتية للتحقق ("إرادة القوة").

على الرغم من أن هيدجر لم يكن يَفْهم فكره في معنى فلسفي ـ اجتماعي ـ أخلاقي بالدرجة الأولى، كما وضح ذلك بجلاء في "رسالة للإنسانية Humanismusbrief لجون بوفري Jean Beaufret، فإن تحليله للوجود في العالم (المرفوق بنقد ضمني لمجتمع الاستهلاك وكبته "لموت الكينونة"، يعني فعل نهائية الوجود هنا) وتحذيره من "نسيان الكينونة" والاعتقاد الخاطئ في القوة المطلقة للتقنية، لابد أن تفهم باعتبارها نداء له من أجل وجود حقيقي (يعني وجود غير مُغَرَّب). ومن ثَمَّ لا غرابة إذا كان مفكرون ذوو توجه إنسي لستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الدول الشيوعية الأوروبية قد رأوا في الأنثروبولوجيا الضمنية، وفي النقد المجتمعي للفكر الكينوني الهيديجيري، إعادة تحديد مفهوم "التغريب" (كارل ماركس)، حيث لعب التحليل الهيديجيري "للأفول" (بصفته ذوبانا في المجتمع الاستهلاكي)، ومفهومه حول "الحقيقة Eigentlichkeit"، دورا أساسيا في إعادة التحديد هذا.

نشر مفكرو "الدائرة التطبيقية" في يوغوزلافيا والفلاسفة ذوو التوجه الفينومينولوجي، كجون باتوشكا Jean Patočka، في تشيكسلوفاكيا فكر هيدجر في أقطار المعسكر الشرقي القديم، وأصبحوا بذلك رواد التجديد الأيديولوجي في هذه الدول، وقاد هذا، من بين ما قاد إليه (بالإضافة إلى أسباب أخرى)، إلى أحداث عام 1989. ولابد من الإشارة في هذا الإطار إلى كون أحد منظري ثورة الشباب لسنة 1968، والتي نتج عنها تحول اجتماعي وسياسي عميق في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، كان هو هربرت ماركوز، أحد تلامذة هيدجر. فقد مشى في نفس درب التحليل الهيديجيري الوجودي في مؤلفه: "الإنسان الأحادي الجانب" بنقده للوجود الزائف.

إن نقده المجتمعي الأساسي، والذي يعتبر إلى حد ما عكسا منه للمرآة في وجه الحضارة الغربية، ونداءه المستمر للرجوع إلى الوجود/الواقع الصحيح ـ باعتباره شرطا لمعرفة الكينونة ـ يكتسي أهمية إضافية بالنظر إلى خاصية العولمة التي لا تبحث إلا على الربح، وبالنظر إلى سياسة القوة والتسلط للدول الصناعية عن طريق التقنية. قد يُفهم العراك السياسي الحالي في الدول العربية الذي بدأ بداية سنة 2011، حتى وإن كانت أسبابه الاجتماعية واضحة منذ سنين، كرد فعل على استغلال الفرد من طرف قوى تسلطية، تجعل من الإنسان "شيئا"، وتفرض عليه أن يشتغل كآلة فقط. إن محاولة التحرر الفردي من الوضع في الدول العربية حاليا يكون فيه هذا الفرد "شيئا" فقط، هو في العمق أساس أنثروبولوجي يتمظهر في مختلف الحقب التاريخية للإنسانية بأشكال مختلفة. ويعتبر فكر هيدجر المتعلق بالكينونة ـ باعتباره نقدا "لنسيان الكينونة" "لإرادة القوة"، كما يتجلى ذلك في إرادية "التقنية" الحالية ـ مساهمة جوهرية لفهم عميق لمثل محاولات التحرر هذه.

منبر

الدكتور حميد لشهب
عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية
حميد لشهب
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال