الإسلاميون الذين يتعايشون مع مظاهر العلمنة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويتكيفون معها بيسر وسهولة وهم يتحولون إلى أحزاب تنتج خطابات عادية حول السياسات العمومية، بعيداً عن أي خلفية دعوية أو مذهبية؛ فجأة يتجاوزون هذا المنطق الذي يتحدثون به في المالية والاقتصاد والطرق والبنيات التحتية والكهرباء والتكنولوجيا الرقمية والمقاولة، ويطالبون بالمرجعية الدينية عندما يتعلق الأمر بالزواج والطلاق والأسرة.
هل هو الشعور بأن الدفاع عن المرجعية الدينية هو معركة دفاع، متأخر تُدار من داخل الأسرة: الحصن المتبقي أمام الزخف الموضوعي للقوانين الوضعية والبشرية؟
أم هو الوعي باستراتيجية ومركزية المعركة حول الأسرة برهاناتها المجتمعية المُهيكلة وبأبعادها وتداعياتها الثقافية والسياسية والاقتصادية؟
مهما يكن، فإن الخطاب حول الأسرة ينقلنا من سِجل السياسات والقضايا الاجتماعية إلى سِجل القيم والمواقف المجتمعية.
لكن، هل الحل هو النظر إلى هذا الموضوع دائماً من زوايا إيديولوجية متقاطبة، حيث نجعل من الهوية وحقوق الإنسان عالمين متقابلين ومتناقضين؟
إن المطالبة بإحالة إشكال سن الزواج إلى المجلس العلمي الأعلى، عدا على إشكالياتها الدستورية والقانونية والمسطرية، فهذا المجلس يرأسه الملك كأمير للمؤمنين وهو من يعرض عليه القضايا التي يتداول فيها، وهو ما يختلف جذرياً عن اقتراح فريق التقدم الديمقراطي بإحالة الموضوع على المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فهذا المجلس كمؤسسة وطنية من صلاحياته تقديم آراء استشارية للحكومة والبرلمان، وظهير إنشائه يؤكد على هذه المهمة، التي يدقق النظام الداخلي لمجلس النواب في مسطرتها.
إننا أمام فرق في الطبيعة وفي الدرجة، إن المجلس الأول يقدم فتاوى وآراء فقهية مبنية على قراءة دينية، أما المجلس الثاني فيعرض آراء استشارية من وجهة نظر حقوقية.
والمؤكد أن النقاش العمومي داخل البرلمان كنقاش معتمد على العقل ومؤسس على الحجج، لن يكون في نفس وضعية «اختبار الصلاحية»، عندما سيجد نفسه أمام فتوى دينية وليس أمام مجرد رأي استشاري.
عندما نعود، إلى هذا الموضوع، قليلاً إلى التاريخ، لابد من أن نتذكر هنا عنصرين لافتين:
أولا: إن معركة تعديل مدونة الأحوال الشخصية، التي قادتها الحركة النسائية المغربية انطلاقاً من بداية الألفية، شكلت في عمقها وجوهرها نزعاً لطابع «القداسة» التي ظلت بعض القوى تحاول إلصاقها بهذا القانون، ودعوة إلى التعامل معه كنص بشري وتاريخي وضعي، له حدوده ونقائصه وقابليته الطبيعية للتعديل والتطوير، على ضوء حاجيات المجتمع.
ثانيا: إن الدور التحكيمي الرائد والحاسم، لأمير المؤمنين في إخراج مدونة الأسرة، ارتبط كذلك - وهذا ما لا يجب نسيانه - بإحالة نص المشروع النهائي للمدونة على المسطرة التشريعية العادية، وهو ما جعل البرلمان يقول كلمته في الموضوع، كما يجدر به في أي نص يعود إليه أمر التشريع فيه.
إن رفع سن الزواج إلى ثمانية عشر سنة، يحتاج إلى قليل من الحكمة والإنصات لصوت العقل والعلم والحق والحس السليم، ولا يحتاج بالضرورة إلى استدعاء معارك الهوية وصراع المرجعيات.