في المغرب يتسابق السياسيون الممارسون للعمل السياسي اليومي داخل المؤسسات في الظهور بمظهر "حلفاء الملك"، وهو الموقع الذي لا يعطيهم فقط إمكانية الاستمرار في السلطة، ولو بشكل عبثي وبلا معنى، بل يحميهم من غوائل الزمن، ويدفع عنهم عيون الحساد، ويقهر خصومهم السياسيين الذين يظلون يترقبون بعدهم عن الملك أو أية سقطة من سقطاتهم ولو كانت زلة لسان، للتخلص منهم عبر إعمال الوشاية والكيد والدسائس، تماما كما كان عليه الأمر منذ قرون طويلة من تاريخ بلاطات السلاطين والملوك والخلفاء.
والمثير أن السباق من أجل الفوز بالقرب من الملك يعتمد أساسا طريقة ماكرة، تتمثل في إظهار الآخرين بمظهر الحلفاء المغشوشين وغير الحقيقيين، وتزكية الذات على أنها الحليف المناسب والمطلوب بل والمثالي. هذا ما فعله حزب الاستقلال ضدّ الاتحاد الوطني سابقا وضدّ الاتحاد الاشتراكي لاحقا، وما فعله حزب الأصالة والمعاصرة ضد العدالة والتنمية، وقام به حزب العدالة والتنمية ضد حزب الأصالة والمعاصرة وضدّ حركة 20 فبراير إلخ.. بل إن السيد عبد الله باها بنى مصداقية حزبه على أنه "الحزب الملكي الحقيقي"، لأن حلفاء الملكية السابقين كانوا ـ حسب تصريحه ـ إما "ضدّ الملكية" أو "فاسدين"..هكذا يقدم حزب المصباح نفسه على أنه الحليف الحقيقي الذي لا غنى عنه، والذي جمع الحسنين: الوفاء للملك والطهرية الأخلاقية .
والملاحظ أن حزب المصباح يضطرّ إلى ترداد هذه اللازمة والتأكيد عليها كلما اقترف رئيس الحزب ورئيس الحكومة زلة لسان يتلقفها الخصوم ليستعملوها ضدّه، "للإيقاع بينه وبين الملك"، فتصبح كل جهود الحزب منصبّة على إصلاح العلاقة مع الملك.
ورغم أن الحزب لا ينسى أن يُذكر الناس غير ما مرة بنتائج الانتخابات التي نسوها بعد عامين من الأزمات والخيبات المتتالية، إلا أنّ ما يبدو في سلوك ومواقف القيادة "البيجيدية" أن التحالف مع الملك والقرب منه واكتساب رضاه هو الشرعية المعوّل عليها وليس صناديق الاقتراع.
ونظرا لأسلوب السلطة في تدبير شؤون الحكم والتوازنات الداخلية حيث لا تتورع عن إحراق النخب التي تعمل معها، وتقديمها قربانا في سبيل دوام النظام الذي تربطه بالاستقرار، فإن الأحزاب والنخب السياسية تبدو مستعدة للانتحار من أجل الملك، لأنها تعتبر أن لا مكان لها في السلطة إلا بجواره، وحتى لو نفر منها الجميع وخسرت معظم قواعدها بسبب ضعف فاعليتها، فهي بحفاظها على التحالف مع الملك ستظل لها حظوظ الوصول إلى مراكز الترأس والتسيير (وليس القرار).
ولأن السلطة على علم بنفور الناس من الانتخابات بسبب عدم ثقتها في المؤسسات الشكلية، فإنها تتحكم هي نفسها في دواليب العملية وتوجهها نحو الاختيار الأسلم بالنسبة للسلطة والأكثر جدوى في الحفاظ على "الثوابت" أي آليات التحكم التقليدية.
يعكس رهان التحالف مع الملك ضعف الأحزاب السياسية أمام قوة النظام وهيمنته، وبؤس الحياة السياسية المغربية، فهو رهان لا يقوم على امتداد شعبي حقيقي ولا على برنامج سياسي شامل ومدقق، ولا على اختيار فكري أو إيديولوجي وسياسي واضح يمكن تقييم أداء الحزب على ضوئه، ما دام الامتداد الشعبي سرعان ما يهتز مع الخيبات والإخفاقات الحكومية، والبرامج الحزبية سرعان ما تصطدم مع التوجهات القبلية أو تعليمات حكومة الظلّ، والمرجعيات الفكرية والإيديولوجية لا معنى لها في مقام التحالف مع الملك الذي يضع السياسات والتوجهات ويُرسل الإشارات من أعلى لتعرف الأحزاب كيف تهتدي في سلوكها السياسي إلى الموقف والاختيار الذي يرضي الملك ولا يغضبه.
لقد استطاعت السلطة إنهاك الأحزاب واضطرتها إلى عدد من التنازلات غير الحكيمة، والرضا بشرف التعاقد مع الملكية دون أي أداء فعال ومشرّف، ولعلّ أهمّ عامل ساهم في إضعاف الأحزاب ـ إضافة إلى انتهازية النخب ـ شيخوخة نسبة من أعضائها وجمود الفكر السياسي داخل الإطار الحزبي، وتجميد أنشطة الحزب في المقرات المتواجدة في مختلف جهات البلاد، مما أدى إلى انقطاع الصلة بالجماهير والقواعد التي لم يعد يحرك معظمها إلا المال أو المصالح الشخصية. يقع هذا بعد أن ثبت لدى القيادات أنّ العامل الحاسم في تحديد مواقعها ليس القرب من الناس وتأطير المجتمع، بل القرب من الملك . وقد بادل الناس هذه القيادات بسحب الثقة منها مما ساهم في استفحال ظاهرة العزوف السياسي.
التحالف مع الملك "تعاقد" سرّي يتمّ في غفلة من الناس، عبر أشكال تقليدية من التفاوض والمساومة التي تتم من تحت الطاولة، حيث يعترف الطرفان "المتعاقدان" بينهما بشكل ضمني بأن الديمقراطية كلام للاستهلاك الخارجي، وأن حقيقة العمل السياسي أنه يخضع لآليات أخرى غير مصرّح بها ولا مكتوبة.
إن مصداقية الحياة السياسية متوقفة على وجود فاعلين سياسيين حقيقيين، يتبارون في تنافسية حقيقية، وانتخابات حقيقية، ولهم برامج حقيقية، ويختلفون في الفكر والإيديولوجيا والتوجهات والاختيارات، ويدركون تمام الإدراك حدود صلاحياتهم وحدود سلطات الملك، ويتحملون المسئولية ويقبلون المحاسبة على أساسها، ويضعون نصب أعينهم نهوض بلدهم وخروجه من ضائقة التخلف، والمشاركة مع بلدان العالم في تطور الإنسانية، أما الاقتصار على حدود اللعبة الحالية التي تنتهي عند الوصول إلى كرسي المسئولية والفوز بشرف مساعدة الملك في تسيير الشأن العام وممارسة السخرة الإدارية، فهذا ما يجعل النسبة العظمى من المغاربة خارج اللعبة السياسية، ويجعل الثقة في المؤسسات في الدرجة الصفر.
يعني هذا أن صلاحيات المنتخبين ما زالت محدودة جدا في الدستور كما يعني أن التسوية السياسية المراقبة والمحسوبة التي عشناها عام 2011 لا تفي بالقصد، وأن معركة الديمقراطية والتخليق الفعلي والعقلاني للفعل السياسي ما زالت طويلة.
على الأحزاب أن تستعيد ديناميتها وأن تقوم بتمتين علاقتها بقواعدها، وخاصة بالشباب والنساء ، وأن تفتح نقاشا داخليا شفافا، وعلى الملكية أن تتحول إلى شريك فعلي وأن ترضى بتقاسم السلطة من أجل حلّ مشاكل البلاد المتفاقمة، وألا تبقى مصدر ريع سياسي وإحراق للنخب.