من حيث غياب الطابع الإيديولوجي والتنظيم الثوري «المركزي»، لا شك قد أثرت على تعقد مسارات الدسترة، وعلى صعوبة إيجاد نماذج تفسيرية مطابقة تمتح من الفرضيات التي تقدمها المعرفة العلمية المتعلقة بتدبير السؤال الدستوري في لحظات الانتقال إلى الديمقراطية.
مأزق دستورانية الربيع العربي أنطلق من الأيام الأولى التي تلت الثورات، مع إشكاليات تدبير الانتقال الدستوري على ضوء الشرعية الثورية الطارئة، ثم مع النقاش المتوتر الذي انطلق حول ترتيب أجندات المرحلة الجديدة، والذي أخذ صيغة جدل التأسيسي والتمثيلي؛ عبر انتصاب السؤال: هل نبدأ بالانتخابات أم بالدستور؟
التقاطبات السياسية الحادة للقوى والفاعلين داخل الدولة والمجتمع، في زمن ما بعد الثورات، أدت إلى نوع من كثافة الطلب على الدستور، حيث توالت الإعلانات الدستورية، أو حتى موجات الدسترة التي واكبت التحولات الكبرى التي شهدتها هذه الدول. تحولات توزع تكييفها السياسي بين اعتبارها موجة ثورية ثانية، أو ثورة مضادة.
من حيث الشكل، فإن إعادة الاعتبار للسلطة التأسيسية المنتخبة في صياغة الدستور لا تعد قاعدة عامة لكل هذا المسار، إذ إن الحالة المصرية لما بعد 30 يونيو 2013 عرفت منحى مغايرا.
أما من حيث المضمون، فإن «انفجار» قضية الهوية، كأثر مباشر لسقوط الأنظمة السلطوية، شكل أول اختبار صعب لكتاب الدساتير؛ حيث انطلق النقاش التقاطبي حول محددات الانتماء الوطني، وحول طبيعة الدولة، وطرحت قضايا الدولة المدنية، وموقع الشريعة الإسلامية في صناعة القانون، وبدا أن التوافقات التي صنعت -على عجل- داخل ساحات الربيع، بين الإسلاميين والعلمانيين، يمكن أن تكون أكثر هشاشة مما نتصور.
مرجعيات الحراك الثوري، وقوة الحضور المجتمعي التي طبعت الفعل السياسي في فورة ما بعد 2011، جعلت صياغة الدساتير تذهب في اتجاه الأجيال الجديدة من دساتير الحقوق والمشاركة المدنية، كما أن اختلاط المطالب السياسية بأصوات الاحتجاج الاجتماعي، جعل مسارات الدسترة تعنى أكثر فأكثر بالسياسات العمومية، وتعود أكثر فأكثر إلى نفس الدساتير/البرامج.
أما من حيث الديمقراطية، فإن النقاشات حول هندسة السلط عرفت -وعلى عكس ما كان متوقعا- انتصارا واضحا للاختيار الذي راهن على تصحيح «الرئاسوية» وتقليم مظاهرها «السلطوية»، مقابل انحسار بيّن للدعوات البرلمانية، وفي كثير من اللحظات قدمت مزايا النظام الرئاسي المعقلن، أو حتى شبه الرئاسي، كضمانة مؤسسية لتجنب مخاطر الانزلاق «الممكن»، الذي قد يحمله الاختيار البرلماني، من حالة الدولة الاستبدادية إلى حالة الدولة الفاشلة.
وإذا كانت هذه التعميمات لا تعني أن ثمة بعض الفروق الجوهرية بين التجربتين المصرية والتونسية، أو بين دستور 2012 ودستور 2014 في مصر، فإن قراءة هذا الأخير -الذي تم التصويت عليه في الأسبوع الماضي- تبدو مثيرة للأسئلة من حيث حجم حضور الجيش داخل النسق السياسي، فيما تظل المفاجآت «الجميلة» معلقة على انتهاء أعضاء المجلس الوطني التأسيسي بتونس من عملية التصويت على ما تبقى من فصول الدستور.
عموما، فإن مسارات الدسترة واكبت كذلك انهيار المثالية الدستورية المليئة برومانسية الثورة وحرارة الساحات العامة، التي تنظر إلى الدساتير كوثائق تأسيسية وعقود اجتماعية تطبع اللحظات الكبرى لتحول الأمم، وانتصار فكرة الدساتير «التكتيكية» التي تأتي كترجمة -آنية- لموازين القوى المتصارعة من أجل السلطة في المرحلة المعقدة لما بعد اليوم الأول للثورة.
في المقال المقبل نعود لتلمس الملامح الكبرى للدستور المصري ولمشروع الدستور التونسي.