القائمة

الرأي

الداء المزمن بأنفسنا والدواء بمتناول أيدينا

لا شك أننا اليوم على وشك ولوج حقبة جديدة من التاريخ، حقبة مختلفة كل الإختلاف عما ورثناه من سلفنا غير الصالح. وما ذلك بصعب إذا ما تحلينا بالصدق وبحسن النية

نشر
DR
مدة القراءة: 4'

إنني من جيل الإستقلال ومن أبناء الهجرة إلى ديار مستعمرينا السابقين، أولئك الذين ننعتهم دوما بالإمبرياليين الجدد. عاينت عن كثب عقدين من الإستقلال بالمغرب وأربعة عقود بأوروبا راقبت خلالها أحوال إخوتي وإخواني من العرب والبربر والقبط. أعتقد أن لي رأيا جريئا عن مكمن وسبب الداء المزمن بالعالم العربي الإسلامي ولي اليقين أن دواءنا بمتناول أيدينا. سأبدأ بتشخيص ونعت ما ينخر ذواتنا وأذهاننا ومعاملاتنا من داء وسأتفحص خبايا ما لا نجرؤ على الجهر به.

في سنة 2001، بعدما نشر الأستاذ محمد عابد الجابري كتابه الرابع في نقد العقل العربي، أرسلت له بضعة مقالات ناقدة عنونت أحدها "من أجل تجديد الفكر العربي : نبذ الوفاق والإتفاق على النفاق". لم ينشر هذا المقال بمجلة "فكر ونقد" وأشار إلي الأستاذ أنه لم يحن بعد أوان تقديم آرائي للقراء. وهأنا أخرج مرة أخرى من "سوق راسي" لأحاول عرض تشخيصي ودواءي بالسوق المغربية. بعد مرور إثنى عشر سنة أرى أن إخوتي وإخواني بشمال إفريقيا لا تنقصهم العزيمة ولا الجد والكد لتغيير أوضاعهم المادية التي تحسنت بشكل ملحوظ وإنما تعوزهم العزيمة على تغيير ما بأنفسهم، ما بأعماقهم، كي يستجيب القدر لتطلعاتهم إلى الحرية والكرامة والعدالة والإحترام المتبادل. وأول ما يستحقونه من كرامة هو أن يعترفوا بأنفسهم لأنفسهم أنهم منخرطون منذ قرون وأجيال خلت في دوامة من النفاق لكي لا يواجهوا أنفسهم أمام مرآة التاريخ التي تبين لهم كل يوم أنهم عراة وأن نفاقهم لا يحل أي مشكل من مشاكلهم وإنما يضاف إلى ركام النفاق الموروث عن سلفنا غير الصالح.

نعم مشكلنا هو الوفاق والإتفاق على النفاق لكي لا نعترف لأنفسنا أننا خوافون من الإرهاب الفكري ومن عنفنا الحقيقي الذي نلجأ إليه جميعا كلما حاول أحد منا تفحص جثث وفكر أجدادنا من السلف. كلنا نعلم أنه كان بإمكان الأستاذ الجابري مثلا أن يكرر لعبة النقد للأمويين ولتهافت الفلاسفة، لكنه لم يجرؤ على الإعتراف أن بن رشد بقي متشبثا بنظرية أرسطو وبفيزياءه الخاسرة والقائلة بتوسط أرضنا للكون، تلكم الفيزياء (أو بالأحرى الخيزياء) التي لم تنتج للبشرية أي شيء ذي فائدة. كان بن رشد وزملائه (من أمثال بن ميمون، القرطبي المنشإ والتكوين كإبن رشد) يعلمون كل العلم أن الإغريق من معارضي فيزياء أرسطو قاموا بتقدير حجم القمر والشمس بالنسبة للأرض. فلقد تبين لأرسطرخس الساموسي، عبر استعمال قوانين الهندسة البسيطة كل البساطة، أن الشمس أعظم بكثير من الأرض واستنتج من ذلك أن الأجرام الضئيلة (الأرض) لا بد وأن تدور حول الأجرام العظيمة (الشمس).

فابن رشد يخبرنا بعلمه هذا في كتابه  فصل المقال إذ يقول ما مفاده 

'يجب أن يستعين المتأخر بالمتقدم على مثال ما عرض في علوم الرياضيات، فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا معدومة وكذلك علم الفلك ورام إنسان واحد أن يدرك ذلك لما استطاع إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي. بل لو قيل له إن الشمس أعظم من الأرض بنحو من مائة وخمسين ضعفا أو ستين، لعد ذلك القول جنونا من قائله. وهذا شيء قام عليه البرهان في علم الهيئة'

لكن الفرق الشاسع بين أرسطرخس الإغريقي من جهة وابن ميمون وزميله بن رشد، من جهة ثانية، هي الجرأة الفكرية والتحرر من آراء دينية مسبقة ترغم أصحابها على عدم تجاوز حدود سطرها السلف. فإبن ميمون اليهودي كان مقيدا، كأهل الكنيسة، بما جاء في التوراة من وصف لطلوع الشمس ولغروبها، لذا فضلوا جميعا التشبث بنظرية أرسطو القائلة بسكون الأرض وبحركة الشمس حولها. ولم يكن بن رشد ولا علماء العرب والمسلمين بمختلفين عن إبن ميمون وعن أصحاب الكنيسة.

لقد قرر الأوروبيون منذ قرون صف توراته وأناجيلهم في رفوف الكتب التي أكل عليها الدهر وشرب والتي يمكن إنتقادها ككل الكتب.  فطالما لم نعقد العزم على إعادة النظر فيما ورثناه من نظريات خاطئة عن الكون وعن الإنسان فإننا سنبقى حبيسي الموتى من أجدادنا ولن ننتج للبشرية ولا لأبناءنا سوى نفاقا آخر نضيفه إلى نفاق السلف غير الصالح 

أفلا تعقلون أيها الإخوة والأخوات ؟

زيارة موقع الكاتب: http://www.ripostelaique.com

منبر

محمد باسكال حيلوط
متقاعد
باسكال حيلوط