المواطنة تعبير عن الحداثة السياسية. وهي بذلك غالبا ما تقارب باتكاء على فضاء وسعة الحقوق السياسية، التي يتمتع بها الأفراد والجماعات.
من جهة أخرى، فإن بحث العلاقة بين العولمة والمواطنة يبرز لنا ثلاث حقائق أولية كبرى:
+ الحقيقة الأولى، أن العولمة تحيل (من بين ما تحيل عليه) إلى إشكالية اقتصاد السوق، بما هو غاية هذه الظاهرة ومضمونها أيضا. بالتالي فالعولمة إياها (بما هي بداية المطاف ونهايته) إفراز الفكر الليبيرالي الجديد، لا ترى المواطنة إلا بربطها و"حرية السوق"، بما هي (أعني حرية السوق) عمق هذا الفكر ونقطته الجوهرية.
معنى هذا أن السوق بقواعده وقوالبه "الطبيعية"، إنما هو تعبير (وفق المنطق الليبيرالي الجديد) عن المواطنة، تماما كما هو مواطن كل من تعاقد (بحريته الذاتية) لبيع قوة عمله لمالك وسائل الإنتاج.
ومعناه أيضا (وفق هذا الفكر) أنه ما دامت المواطنة حقوق وضعية بالأساس، فإنها تبقى مبنية على الاعتراف بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، في حين أن حقوقها "الطبيعية" (و"الحقيقية" يقول البعض) تبقى محصورة في السوق.
هناك إذن قوانين مصاغة (لتكريس الحقوق أو للحفاظ عليها)، وهناك تلك التي تتمتع ب "الصفة الطبيعية غير المتغيرة"، والتي تؤسس لخلفية السلوكات والتمثلات. هذا التمييز بين الوضعي والطبيعي (في تحديد الحقوق) هو في عمقه، من التمييز بين السياسي والاقتصادي سواء بسواء: للمواطنين أن يهتموا بقضايا الحقوق السياسية (الوضعية)، ولأصحاب المقاولات والمستثمرين ورجال الأعمال أن يشتغلوا وفق "قانونهم الطبيعي" الذي يحدده لهم السوق.
وعلى هذا الأساس، فإذا كانت المواطنة من مجال الوضعي، الحقوقي والمدني، والنشاط الاقتصادي من فضاء الطبيعي (قانون العرض والطلب مثلا)، فإن هذا النشاط مستثنى عمليا من الانشغال بالبعد المواطناتي. بمعنى أنه لا يمكن "أن نكون مواطنين بمعنى السوق، إذا كان هذا الأخير يشتغل وفق قانون آخر، قانون طبيعي"، يخضع في فعله لمبادئ داروين المعروفة.
+ الحقيقة الثانية (المكملة للأولى) وتتمثل في أن العولمة ساهمت (ولا تزال) في جعل المواطنة على المحك، ليس فقط من خلال تكريس نموذج في الديموقراطية شكلي (مادام لا يركز إلا على الحقوق الشكلية)، ولكن أيضا من خلال الإقصاء الممنهج لكل البدائل الديموقراطية المتاحة الأخرى.
لا مواطنة زمن العولمة، إلا مواطنة السوق، المنصهرة بدورها في ديموقراطية السوق. ولا مواطنة (اللهم شكليا) إلا لمن يملك ويتملك، ولا مواطنة إلا لمن يضع القوانين واللوائح، ولا مواطنة إلا للأقوى نهاية المطاف.ليس غريبا إذن أن تنتشر مؤسسات "المجتمع المدني" بكل أرجاء المعمور (عبر الأعمال التطوعية والمبادرات الموجهة والنشاطات التحسيسية وغيرها) لا بغرض استحصال "حقوق مواطناتية" من حجم ما أو من فصيلة ما، ولكن على الأقل لتصحيح ما أفرزته مواطنة السوق من بؤس وتفقير وتهميش ولامساواة أمام المواطنة الحقيقية.
+ الحقيقة الثالثة وتكمن في أن العولمة بقدر ما تتطلع للشمولية وللشوملة (لتطال بذلك الكون بمجمله)، بقدر ما ترفض تكريس مبدأ المواطنة الشمولية والمشوملة، تماما كما ترفض الدول الكبرى والمنظمات الدولية مبدأ حرية التنقل العالمي للأفراد، على غرار ما هو سار على مستوى تنقل تيارات السلع والخدمات والأموال (المضارباتية).
هناك إذن، زمن العولمة، وضع تضاد وتوتر بين الادعاء بشمولية القيم الديموقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وبين واقع التجربة التاريخية المميزة للأفراد والجماعات داخل المجتمعات. وهناك أيضا وضع تضاد وتوتر بين الادعاء بالانتماء والانتساب المشترك إلى "عالم واحد"، وواقع الانكماش (المفروض غالب الأحيان) داخل فضاء عام محدد ومجال جغرافي محدود.