قد تجتاح المجتمعات نزعات الحنين إلى الماضي، تحت تأثير المتخيّل الجمعي الذي يعتقد أنّ ما مضى أفضل مما نعيشه، وقد تستبدّ بالأفراد الأحلام الأنانية للحفاظ
على بعض المصالح والامتيازات على حساب الآخرين، لكن بسبب التأثير المتزايد للقيم الإيجابية المعولمة، تُحسم الأمور بالتدريج في بنيات الواقع اللامرئية، و لاوعي الأفراد والجماعات، لصالح الأفضل والأرقى والأكثر إنسانية. وسواء زادت حدة المقاومة أو قلت فإن النتيجة تبقى هي نفسها.
وقد يتمسك المرء بميراث الأجداد معتبرا أنه المحدّد الأول والوحيد لوجوده وسط الآخرين، وهذا أمر طبيعي في ظلّ قلق هوياتي خانق، أدّت إليه عوامل متشابكة مترامية الأبعاد، لكنه سيجد نفسه ملزما في يوم من الأيام بعد جيل أو جيلين بقبول حقيقة أن الميراث هو من الثقل بحيث لن يستطيع أن يتحمله كله، كما لا يمكن أن يتخلى عنه كله، وأن الحكمة تقتضي أن يختار عناصر البقاء والاستمرارية بعقلانية واقعية، وأن يترك ما سوى ذلك لذمّة التاريخ.
تعلمنا التجارب والمحن ولحظات الأزمة أن المضي إلى الأمام يقتضي أن نحتفظ بقدر من الأمل يسمح بصفاء الذهن ووضوح الرؤية، وأن ندرك أن عناصر الانبعاث والنهوض توجد دوما في صميم المأزق ذاته، وأنّ عامل الاستمرار والنجاح يكمن في تحويل عناصر الضعف إلى نقط قوة. ولعل أقوى هذه العناصر الانتصار للإنسان، وتكريمه والاحتفاء به، في مواجهة الإيديولوجيات الإطلاقية التي تضحّي بالإنسان من أجل الحفاظ على دونيته أمام التقاليد وسلطة الجماعة.
ليست مشكلتنا في المجتمع المحافظ، بل في من أصرّ على أن يبقيه كذلك، فثمة شعوب أتيح لها أن تبلغ درجات عالية من الرقي، دون أن تتخلى عن تقاليدها الإيجابية والإنسانية، ولكن ذلك تمّ بتواطؤ جميل بين النخب والقيادات التي جعلت مصلحة البلاد هي العليا، واعتبرت نهضة البلد ربحا لها وفوزا عظيما، وهو ما يقع خلافه تماما في وطننا العزيز هذا، حيث ما زالت مصلحة الكل تتعارض مع مصالح البعض، وما زالت حقوق الناس مثار انزعاج أناس آخرين، لكننا لسنا في نهاية التاريخ، وحتى لا يخبو الأمل، لا بدّ أن نرى الجانب المضيء من كل شيء.