كل أشكال الحروب الممكنة كان يستعملها الغرب لإزاحة المعسكر الشرقي من الوجود كإيديولوجيها جاءت لتجرب أشكالا أخرى للحكم وتدبير الدولة.. وطبعا لا يمكن القفز عن أخطاء "الشيوعيين" ولا ممارساتهم الديكتاتورية ضد شعوبهم.. ومن اللائق الوقوف عند "مذبحة تيميشوارا" التي عجلت بسقوط تشاوسيسكو ونظامه كحدث له معنى واستلهامات لها ما بعدها، لقد نقلت قنوات العالم التلفزية والصحف صورا عن "مذبحة" شنيعة في مدينة صغيرة اسمها تيميشوارا، حيث شوهدت الجثة ملقاة في الشوارع والدماء تنزف منها..وقع "الحدث" بالضبط في 16 من ديسمبر من العام 1989، ليصدق العالم هذه المجزرة، وليتم بسرعة خارقة إعدام تشاوسيسكو وزوجته إثر محاكمة مستعجلة، فذلك مصير "المنهزم" حيث لا عدالة سوى ما يفرضه المنتصر، والمنتصر هنا ليس سوى الغرب وريكان وتاتشر.. وليعيد التاريخ محاكمة نوربورك (1946- 1949) مع فارق وهو أن الحرب العالمية الثانية خلفت ملايين الضحايا على مسؤولية كل المشاركين في الحرب، ليظهر فيما بعد أن "المجزرة" في تيميشوارا لم تكن سوى شريطا هوليوديا أخرج بعناية فائقة.. وليظهر للشعب الروماني أن بلاده ليس في ذمتها أي دولار كقرض خارجي وأنها غير مكبلة لا من طرف صندوق النقد الدولي ولا من قبل صندوق البنك الدولي، وليتضح للشعب أن تمدرس جميع الأبناء كان مضمونا وكذلك السكن والتمريض، وقد خرجت رومانيا من عهد التخلف القروسطي، خاصة بواديها التي عرفت تنمية لا قبل لرومانيا بها.. لكن دون أن يكون في البلد أغنياء كبار حد التخمة، ولا استغلالا مفرطا لأقلية أوليغارشية أو تيوقراطية، وطبعا دون إغفال بعض التجاوزات التي كانت تحصل من طرف المحيطين بتشاوسيسكو وحتى من قبل أحد أبنائه الذي اتهم باغتصاب إحدى الرياضيات حينذاك.. ومثل تلك التجاوزات وغياب الديمقراطية لظروف تاريخية معروفة كانت من أخطر معضلات أوربا الشرقية..
الآن أصبحت رومانيا مدينة للغرب بالملايير، وشعبها يكدح ليرد الديون والفوائد كعدد من الشعوب المقهورة، و"استثمارات" شركات الغرب "مزدهرة" في استغلال لقدرات البلد ويده العاملة، رغم انخراط رومانيا في الاتحاد الأوربي ابتداء من سنة 2007. ولم يعفها ذلك من تراكم القروض عليها ودخولها مرحلة الأزمة الاقتصادية..
وبالمناسبة يجب أن نتذكر ليش فاليسا قائد نقابة التضامن في بولونيا فقد كانت قضيته النقابية في مدينة صناعة السفن حق أريد بها باطل، لقد انهزم في انتخابات موالية وأصبحت كل "مجهوداته" جزء من التاريخ، بعدما لم يفلح في أن يجلب "النعيم" من الغرب لبولونيا.. لا أحد يتساءل الآن عن من المسؤول عن "مسرحية تيميشوارا"، فما أبسط أن يتم تضليل الشعوب في ظل وسائل الإعلام الحديثة كما هو عليه الأمر الآن..
إن مناسبة هذا الحديث ما يتناسل اليوم بكثير من البؤس من أجل "خداع الشعوب"، خاصة مع تنامي وسائل الاتصال الحديثة، حيث تحضر الصورة والصوت.. من استطاع من "المشاهدين" عبر العالم متابعة ما جرى بالعراق قبل سقوط نظام صدام حسين وإعدام هذا الأخير؟ من تحقق من كل مجريات المعارك التي جرت بليبيا قبل انتهاء نظام العقيد القذافي؟ بل من رأى عبر ذات القنوات التي كانت تختار ما تنقله بعناية من المعارك شيء من الخراب الذي لحق البشر والحجر؟ وقد نستطرد في ذكر المزيد من الأمثلة، والخلاصة هي أن صناعة الإعلام والتأثير على الرأي العام أصبحت جزء قويا وبارزا من الحرب الآن مادام أن "صناعة" القرار على المستوى الدولي تتم بشكل غير ديمقراطي ويتحكم فيها الكبار لمصالحهم الضيقة.. ولن يقلل من التأثير السلبي لذلك غير تنامي الوعي وتحصيل الثقافة والعلم والديمقراطية لدى كافة الشعوب.