لكن الوضع السياسي في البلدان المعنية سرعان ما دخل في حالة من الغليان والتوتر، إلى درجة سقوط ضحايا. وبدا أن مخاض الانتقال الديمقراطي سيكون عسيرًا، وسيتطلب زمنًا أطول مما توقعه الكثيرون، وسينطوي على الكثير من التعقيدات.
مع ذلك، يجب الاعتراف بوجود عدد من العناصر الإيجابية القائمة بين ثنايا الوضع السياسي الذي أعقب سقوط "رؤوس الأنظمة" :
- صعود الحكومات الإسلامية جرى بواسطة انتخابات غير مطعون فيها بصورة عامة. الأطراف السياسية قبلت نتائج تلك الانتخابات واعترفت بفوز الإسلاميين، والشهادات الدولية اتجهت إلى الإشادة بتلك الانتخابات وإلى التسليم بمصداقيتها؛
- الرؤساء الذين سقطوا لم يعد بإمكان الأحياء منهم أن يحلموا بالعودة إلى الحكم.. لقد طُويت بصورة نهائية صفحة هؤلاء الرؤساء. طبعًا، يمكن أن يظهر شكل جديد من الاستبداد، ولكن الشكل القديم لا يمكن أن يعود بواسطة رموزه القديمة، مع حصول نوع من التطور السياسي الذي يجعل الشعوب، اليوم، أكثر تأهباً لمواجهة الاستبداد ولعدم مهادنته؛
- النقاش السياسي الذي ظل سجين البيت العنكبوتي، اقتحم وسائل الإعلام الأخرى، وحصلت هَبَّةٌ إعلامية سمحت، لأول مرة منذ عقود، بتناول الكثير من المواضيع التي كانت من قبيل الطابوهات وبمعالجة العديد من القضايا الحساسة التي كانت مطمورة وموثقة بالأصفاد. الجو الجديد من الحرية الإعلامية، التي لم ينتظر الإعلاميون إذنًا من أحد بممارستها، يرسي، اليوم، أسس وعي مواطنتي مستنير، ويخلخل بعض الأحكام المسبقة، ويرسخ تقاليد النقد، ويعيد التأكيد على الطابع البشري لتدبير الشأن العام، ويستبعد قيم عبادة الشخصية؛
- العلمانية، كاختيار سياسي وقناعة فكرية، أصبحت تتحول شيئا فشيئًا –لدى الرأي العام- إلى موقف مقبول، وغدا معسكر العلمانيين جزءًا من الوطن وجزءًا من الشرعية. لم تعد العلمانية تعني معاداة الدين، ولم يعد الإعلان عن الانتماء العلماني مبررًا كافيًا لرفض الأطراف السياسية الأخرى التعامل مع من يتولى هذا الإعلان. وغدت "العلمانية الإسلامية" المعتدلة تحظى بالمزيد من الأنصار والمشايعين، ووجد البعض في شعار "الدولة المدنية" ترجمة لهذه العلمانية. وانتهت العديد من التنظيمات الإسلامية إلى رفع هذا الشعار، مع شحنه بحمولة خاصة بها؛
- القوى غير الإسلامية، التي شعرت أن تشتتها يساعد الإسلاميين على محاولة فرض تصور خاص للانتقال يحيد عما تعارفت عليه الشعوب الأخرى، شرعت في توحيد صفوفها وتنسيق جهودها والاتفاق على قواسم مشتركة لضمان نوع من التوازن في الساحة السياسية ولإنجاح الانتقال الديمقراطي.
ورغم هذه الإيجابيات، فإن "حكم الإسلاميين"، في نظرنا، أبان –وخاصة في مصر- عن العديد من نقاط الضعف، يمكن إجمال أهمها في ما يلي :
1) محدودية الكفاءة : ظهر أن الإسلاميين لا يتوفرون على الكفاءة المطلوبة لتدبير الشؤون العامة، وتنقصهم المعرفة الجيدة بالملفات، وليس لديهم من المقترحات والحلول، في الأغلب، إلا تلك التي سبق أن طُبقت في المرحلة الماضية. وظهر أيضًا أن هناك نوعًا من التخبط في التسيير، والدليل على ذلك هو تعدد القرارات التي يتم التراجع عنها بعد اتخاذها. طبعًا، يمكن أن يُقرأ التراجع أحيانًا بصورة إيجابية باعتباره تجاوبًا مع ضغط الشارع ومرونة في الحكم، ولكن كثافة التراجع تكشف عن عدم وجود إدراك مسبق للآثار والاحتجاجات التي من المفروض أن تثيرها القرارات المتخذة؛
2) التنصل من الالتزامات والوعود : المعاناة الطويلة التي تعرض إليها الإسلاميون ومخططات التهميش والقمع التي استهدفتهم، وَلَّدَتْ لديهم الإحساس أحيانًا بأن كل الوسائل مشروعة لحماية أنفسهم، بما في ذلك التقدم بالتزامات ووعود، ثم التحلل منها، إذ يُقَدِّرُونَ، مثلاً، أن تنفيذها في زمان ومكان معينين سيسهل مهمة الخصوم والاسئصاليين الذين يتربصون بهم الدوائر. وهكذا أدت حالة المظلومية إلى ترسيخ توجه براغماتي مطلق لدى الإسلاميين باسم المشروعية الدينية للتقية؛
3) النزعة الحزبية المغالية : بما أن الإسلاميين يعتبرون أنفسهم في حالة دفاع شرعي دائم عن الإسلام، فإن الانطلاق عمليًا من فكرة الحزب أو الجماعة أَوَّلاً، ليس، في نظرهم، إلا ترجمة لفكرة الإسلام أَوَّلاً. وهكذا لاحظنا كيف نددت مختلف القوى السياسية بنهج الإسلاميين القائم على زرع الموالين لهم في مفاصل الدولة وأجهزتها. إنهم يعتبرون أن الدولة معادية ويريدون تحويلها إلى دولة موالية، والحال أن الديمقراطية تقتضي تحويلها إلى دولة محايدة. إنهم يعتبرون عملية الزرع، المشار إليها، وسيلة ضرورية لتأبيد وجودهم حيث هم وتجنب "انقلاب على الشرعية" يطيح بهم؛
4) اعتبار أن الديمقراطية هي الانتخابات فقط : يحمل الإسلاميون أحيانًا نظرة مختزلة عن الديمقراطية، فيعتبرون أنها هي الانتخابات فقط، ولذلك يُقَدِّرُونَ، مثلاً، أن شرعية صناديق الاقتراع تبيح لهم فعل أي شيء، لأن ذلك يعكس إرادة الشعب. لا ديمقراطية بدون انتخابات، ولكن الانتخابات وحدها ليست هي الديمقراطية، فلا يُعقل، باسم الشرعية الانتخابية، أن تُداس الحقوق والحريات أو يُمَسَّ فصل السلطات أو تُحَصَّنَ القرارات ضد أوجه المساءلة والطعن...إلخ؛
5) محاباة الأجهزة الأمنية والعسكرية : قدم الإسلاميون تنازلات سخية إلى المؤسستين الأمنية والعسكرية، باسم اتقاء شرهما ربما، ولكن التنازلات عندما تتعارض مع قواعد الحكامة والديمقراطية، فإنها قد تكون مقدمة لمشروع تحالف مع المؤسستين من أجل البقاء؛
6) النظر إلى الدينامية المعارضة بنفس الطريقة التي كان النظام السابق ينظر بها إلى هذه الدينامية : يتجلى ذلك، مثلاً، في اعتبار المظاهرات والمسيرات استهدافًا لشرعية الصناديق وخدمة لـ"الفلول"، وقمعها بوحشية، والتصريح بأن اللحظة ليست في حاجة إلى مظاهرات، واعتبارها فتنًا، والتعلل بالمس بالنشاط الاقتصادي وأمن المواطنين، وعدم إبداء الحزم الكافي في التعامل مع الفتاوى التي تهدر دم المعارضين؛
7) التضايق من الانفتاح الإعلامي : أظهرت الحكومات الإسلامية انزعاجًا كبيرًا من جو الحرية الذي ساد الفضاء الإعلامي، ولَمَّحَتْ أحيانا إلى أن الإعلاميين مسخرون لخدمة أجندة سياسية؛
8) الخلط بين الشرعية الانتخابية و"الشرعية الثورية" : يعتبر الإسلاميون أن الثورة انتهت، وأن الشرعية الانتخابية عوضت الشرعية الثورية، وأن المخول لهم الحديث باسم الثورة هم المنتخبون وحدهم، وهذا ما يعبر عنه البعض ب"سرقة الثورة". إن الانتخابات جزء من المسلسل الثوري وليست نهايته. والذين ساهموا في صنع الثورة، مثلاً، ولم يظفروا بغنيمة انتخابية، تحق لهم المساهمة برأيهم في وضع قواعد دولة ما بعد الثورة، في إطار دينامية الانتقال؛
9) الخلط بين كل من الوظيفة التدبيرية العادية والوظيفة التأسيسية في إطار الانتقال؛ ومحاولة الإسلاميين إضفاء تصورهم الخاص على "العملية التأسيسية" بما يخدم مصالحهم، واحتقار مساهمة الأقليات، الانتخابية وغير الانتخابية، في وضع القواعد الكبرى المهيكلة للدولة والضامنة للحريات، ومحاولتهم فرض هذه القواعد وفق منطق الغالب على المغلوب، وليس وفق منطق الانتقال الديمقراطي، وتجاهل متطلباته السياسية والأخلاقية والثقافية.
ومع ذلك، فإن هذه البداية غير المُوَفَّقَةِ، ربما، لحكم الإسلاميين ليست قادرة على منحنا فكرة نهائية عن المآل، فتدخل الشارع والمعارضة والخارج قد يساهم في تغيير الكثير من المسارات.