السبب الأول هو حصول أعمال غش لابست عمليات الفرز وإحصاء الأصوات. الأستاذ عبد الواحد الراضي اعترف بذلك، ولكنه قَلَّل من أثر أعمال الغش على مجمل النتائج. قد يكون كلام ذ. الراضي صحيحاً، غير أن المطلوب في مثل هذه الأحوال هو تشكيل لجنة للتقصي لجمع المعلومات وتلقي الشهادات وإعادة فحص المحاضر والوثائق، للتثبت من أن أعمال الغش كانت محدودة ولم تؤثر على سلامة النتائج النهائية، واتخاذ ما يلزم من قرارات في حق المسؤولين عن تلك الأعمال. نحن ألفنا في بيئتنا الانتخابية أن يشكك الخاسرون في نزاهة الاقتراع، أحيانا بدون سند؛ ولكننا، بالنسبة إلى مؤتمر الاتحاد الاشتراكي، نوجد، من جهة، أمام تقديم أسماء وازنة وتاريخية لاستقالاتها تنديدًا بما وقع في المؤتمر، ونوجد، من جهة ثانية، أمام شهادات صادمة اطلع عليها الرأي العام وتحمل أصحابها مسؤولية الإدلاء بها في الساحة العامة، وهو ما يقتضي وضع هذا الرأي العام في الصورة الحقيقية لما جرى. وقد لا يكون هناك مناص مستقبلاً، بالنسبة للأحزاب المغربية التي تحترم نفسها، من أن تعتمد مسطرة المراقبة "الخارجية" على عمليات الاقتراع التي تجري داخل الحزب، بواسطة انتداب ممثلين عن المنظمات الحقوقية والأكاديميين والمجتمع المدني لمراقبة سير الانتخابات الحزبية الداخلية أو المشاركة في الإشراف عليها.
السبب الثاني هو تواتر الحديث عن قيام "المجموعة"، التي حملت أصواتها ذ. لشكر إلى سُدة الكتابة الأولى، بممارسة نوع من الإقصاء حيال المجموعات الأخرى، الشيء الذي أدى إلى أن هذه المجموعات لم تتمكن من ضمان تمثيلها في اللجنة الإدارية والمكتب السياسي بالشكل الذي يطابق حجم تواجدها في خريطتي المؤتمر والحزب، وحُرمت الكثير من الرموز المرتبطة بتلك المجموعات من الاحتفاظ بمواقعها القيادية رغم حاجة الحزب إلى عطائها، فكأنها تعرضت لنوع من العقاب بسبب عدم مساندتها للكاتب الأول الحالي. تقول الرموز المذكورة أنها تلقت التزامًا ممن يُفترض أنه يمثل مجموعة المصوتين على الكاتب الأول أو نواتها الصلبة، بعدم إقصائها، ثم جرى خرق الالتزام. أما الذين يُتَّهَمُون بالخرق المذكور، فيحاولون الإيحاء بأنه لم يكن بمستطاعهم ممارسة أي توجيه لإرادة الناخبين، وأنهم في النهاية "مضطرون" إلى احترام حكم صناديق الاقتراع رغم أنهم كانوا يودون لو اتسمت تركيبة الجهاز القيادي بدرجة أكبر في تمثيل الحساسيات الموجودة داخل الحزب.
هذه المشكلة، المتمثلة في احتمال لجوء الأغلبية داخل حزب معين إلى الهيمنة على كافة أو جل مواقع المسؤولية وتهميش الآراء والحساسيات والمجموعات الأخرى، يمكن التغلب عليها بواسطة الاعتراف بوجود تيارات علنية، ومنح هذه التيارات مجموعة من الحقوق التنظيمية، وضمان وجودها في قيادة الحزب وفق نظام التمثيلية النسبية. إن هيمنة تيار أو مجموعة واحدة على القيادة يغري أعضاء التيار أو المجموعة باستعمال اللوجستيك الحزبي لتأبيد سيطرتها على دواليب الحزب، وإقصاء "الآخرين"، وإعدام حظوظهم في التداول على المسؤولية.
السبب الثالث هو بداية تصدع في العلاقة بين الفريق النيابي للاتحاد الاشتراكي والمكتب السياسي للحزب، ولا أدل على ذلك من الأخبار المنشورة في الصحافة الوطنية، والتي تفيد أن الفريق المذكور هو بصدد مراجعة موقفه من الحكومة، إلى درجة أن جريدة "الصباح"، مثلاً، ذكرت، حسب مصادر من الفريق، "أن غالبية أعضائه يناقشون إمكانية تبني المساندة النقدية تجاه الحكومة عوض المعارضة، وهو توجه يدعمه عدد من أعضاء الفريق المحسوبين على أحمد الزايدي" (3 يناير 2013 ع 3974 ص 3)؛ وتحدثت جريدة "الخبر" عن "موقف جديد" للفريق، يعني رفض "خدمة مصالح لشكر" ويعني "عدم مباركة علاقة لشكر بحزبي الأصالة والمعاصرة والاستقلال" (23 يناير 2013 ع 507 – ص 1)؛ وأوردت "أجوردوي لوماروك"، على لسان عضوة في الفريق، أن "تطبيق أجندة ما هادفة إلى وضع العصا في عجلة الحكومة، لن يكون أبدًا هدف الفريق النيابي" (23-27 يناير 2013 ع 2853 – ص 6).
لا نستطيع الجزم الآن أن ما نشرته الصحف صحيح بالكامل، وأن هناك انتقالاً في موقف الفريق النيابي الاتحادي من موقف "المعارضة" إلى موقف "المساندة النقدية" لحكومة بنكيران، وذلك لعدم وجود بلاغ رسمي يؤكد، بشكل لا لبس فيه، حصول الانتقال المذكور، ولأن تركيبة الفريق "مخضرمة" وتضم أفرادًا وافدين من "أحزاب إدارية" لمساعدة الاتحاد على ضمان مزيد من التقارب مع النظام، ولا يستطيعون تحمل تمرين إزعاجه، ولأن بالفريق أيضًا مناضلين اتحاديين يعلمون أن مثل هذه الانعطافة في خط سير الفريق تمثل خطأ سياسيًا وتنظيميا لا يقل خطورة عن خطأ المسؤولين عما جرى في المؤتمر.
ومع ذلك، علينا الاعتراف بأن هناك بعض ضحايا المؤتمر التاسع ممن لهم ربما مصلحة شخصية، في التلويح بمساندة حكومة بنكيران مساندة "نقدية" والتهديد بالتقرب من الإسلاميين، كرد فعل على ما وقع في المؤتمر وكرسالة ما يُراد تبليغها إلى من يهمه الأمر.
ويظهر أن جريدة "التجديد" من خلال مقال منشور بالصفحة الأولى تحت عنوان (الاتحاد الاشتراكي ومهامه الحقيقية)، تجاوبت ضمنيًا مع الشعار الذي ربما رفعه بعض نواب الاتحاد، وأدلت بما يفيد أن مكان الاتحاد الطبيعي يجب أن يكون بجانب "التجربة الحالية للانتقال" وضد "جيوب مقاومة الإصلاح الديمقراطي". بينما لا يخفى على الجريدة أن السياق الذي يجري فيه رفع الشعار اليوم بعيد عن الاعتبارات المبدئية، بل هو جزء من صراع داخلي ومحاولة لتأديب طرف حزبي متهم بارتكاب تجاوزات، وهو أيضًا تنبيه موجه إلى خارج الحزب يقضي بخطأ المراهنة التي تمت على هذا الطرف.
إن الذين ينادون بالتحول من المعارضة إلى المساندة النقدية يعلمون، في نظرنا، أن هذا التحول لن يقع على أرض الواقع، ولكنهم يهدفون فقط إلى إحراج القيادة الجديدة للحزب والدخول معها في اختبار للقوة، وبعث إشارة تفيد بأنهم موجودون ولا يمكن تجاوزهم؛ فالبيان العام الصادر عن المؤتمر التاسع للاتحاد كان واضحًا في التأكيد على التشبث بخيار المعارضة، وفي الإشارة إلى أن "الاتحاد الاشتراكي، الذي اختار بوعي ومسؤولية خيار المعارضة، انسجامًا مع الخلاصات التي استخلصها من قراءته للإشارات التي بعثها الناخبون خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، يعتبر أن من مشمولات هذا الخيار العمل على إزالة اللبس والغموض، وخلط الأوراق في الحقلين السياسي والحزبي..". ولم يسبق لأي من المرشحين الأربعة لمنصب الكاتب الأول أن عبر عن ضرورة الانتقال إلى المساندة النقدية أو دافع عن هذا الاختيار أمام مؤتمري الحزب أو حاول أن يستصدر قرارًا بتزكية الاختيار المذكور؛ فالأصل أن المؤتمر هو الذي يحسم في التوجهات الأساسية للحزب، والفريق النيابي يترجم ذلك من خلال عمله داخل المؤسسة التشريعية. وليس هناك أي جديد يفرض على الحزب تغيير موقفه بعد بضعة أيام فقط على انتهاء أشغال المؤتمر. والفصل 61 من الدستور ألزم النواب، عمليًا، بأن تكون مواقفهم في البرلمان امتدادًا لمواقف أحزابهم، وإذا حصل تخلٍ عن الانتماء للحزب فهو يعني التجرد مباشرة من الصفة البرلمانية.
دعاة المساندة النقدية في مرحلة ما بعد المؤتمر التاسع، مهما قلَّ عددهم، يمثلون وجها من أوجه الأزمة الاتحادية، وجزءًا من أزمة السياسة بالمغرب، فالتظاهر بتبني مشروع التقرب من العدالة والتنمية هو موقف احتجاجي داخلي و"خارجي"، هدفه خلق أكثر ما يمكن من المشاكل للكاتب الأول الجديد، وتقديمه في صورة العاجز عن قيادة الحزب وتمثيل الحزب، والإيحاء بأن الحزب هو الفريق النيابي بمعنى أن الذي "يحكم" الحزب ولكنه لا يحكم الفريق، لا يحكم في النهاية أي شيء، وأن الذين تدخلوا لصالح الكاتب الأول الحالي وهندسوا معه صعوده إلى موقع الكتابة الأولى مخطئون، لأن لشكر ليس هو الطرف الوحيد في الحزب، وليس هو الحزب، وأن هناك أطرافًا أخرى يجب أن تحظى بالاعتبار.
إن خط المساندة النقدية قد تكون له مبرراته، ولا شيء يمنع من الإنصات إلى حجج القائلين به واحترامهم، ولكن المؤلم في الحالة الاتحادية، اليوم، هو توقيت الدفاع عنه؛ فهل يتعلق الأمر بتطور في الاجتهاد أم بجواب على نزال حزبي انتصر فيه طرف بطرق متنازع فيها، ولم يعتبر الطرف الخاسر أن المعركة قد انتهت، ويحاول أن يقول للرابح إنه مع ذلك –أي الرابح- يظل خاسرًا، ويريد أن يفسد عليه فرحة الانتصار.
والأكثر إيلامًا أن لعبة استخدام التقارب مع العدالة والتنمية كفزاعة للضغط فقط من أجل استخلاص ربح سياسي، والتي تأذت منها سمعة بعض السياسيين في السابق، قد عادت، اليوم، ربما لتمارس إغراءها على بعضهم الآخر.
والغريب أن من يقدم نفسه كبديل عن طرف يستعمل سلاحًا سياسيًا غير مقبول أخلاقيًا، لا يمكنه أن يستعمل ذات السلاح ثم يطالب الرأي العام بالاعتراف له بتفوق أخلاقي على خصمه.
إن الأسلوب الذي يُمارس به الاتحاد الاشتراكي المعارضة، اليوم، منتقد على أكثر من صعيد، ولاسيما بسبب قيامه على استثناء مساحات أساسية للقرار من التغطية وعدم قدرته على الخروج من جبة بعض المحافظين القدامى والمحافظين الجدد بثوب الحداثيين والتميز عن أجنداتهم، ولكن "تصحيح" مسار المعارضة، وتحريره من الارتهان إلى الحسابات اللاديمقراطية ومن عقلية التحامل والاستهداف المجاني، لا يفرض بالضرورة الانتقال من المعارضة إلى المساندة، ولو كانت نقدية.
وأخيرًا، لو أن انتخابات مؤتمر الاتحاد تمخضت عن نتائج أخرى وفائزين آخرين، هل كانت فكرة مراجعة طريقة الحزب في المعارضة ستُطرح، وما الذي كان يمنع الذين يطرحونها، اليوم، من تبني وتفعيل تلك الفكرة في الماضي؟.