ونحن نقرأ الصحف ونتابع نشرات الأخبار على قناتينا خاصة، نشعر بنوع من الاحتباس، هل جفَّ ضرع المغرب السياسي من الحدث والخبر، هناك مساحة من البياض في مسام جلد يومنا، أجلس في مكتبي كل صباح، أطالع سواد الجرائد بعادة احتساء سواد القهوة، أنتهي من قراءة أكوام من الجرائد اليومية قبل أن يبرد فنجان قهوتي، ولا خبر في البلد... يرهبني هذا الصمت المنتشر بيننا، لأن كل صمت يخفي أزمة ما.
يشتكي زملاء في رئاسة تحرير جل الصحف بحيرتهم في التقاط الخبر وإعداد ملفات الأسبوع، ولا حدث في البلد يغوي بالمتابعة...
تتكاثر الصحف النابتة بيننا كالفطر ويتضاءل عدد القراء، لأن في بلادنا لا تأتي الصحف بشهادة ميلادها بناء على حاجة اجتماعية أو تعبير عن نخب جديدة أو تيارات فكرية، لذلك تتحول إلى ما يشبه كناش للحالة المدنية لمدرائها ومحرريها، أو دفتر يوميات يحكون فيها مغامراتهم ويشهرون فيها سيف عنترياتهم أو يسترزقون بها طرف الخبز بدل الخبر، كي لا يعضهم الجوع.. ولا خبر ولا حدث.
أضحت جرائدنا مثل امرأة نامت في محطة المسافرين وقصدت معشوقها دون أن تهتم بهندامها ولا بتمشيط شعرها ولا برؤية وجهها في المرآة، جرائد بلا طعم ولا مذاق.. والوجبات التي نقدمها للقراء تتشابه مثل توائم..
أخبار البرلمان لم تعد تعني غير أعيان القبة، وملفات سنوات الرصاص غدت أشبه بوجبة بائتة، وأعضاء الحكومة الذين أقفلوا عليهم مكاتبهم وبعضهم لم نعد نعرف هل لا زال على قيد الحياة أم قضى نحبه، والجيد فيهم لا يحرك مبيعات جريدة واحدة لأن القراء أضربوا عن الساسة والسياسيين أجمعين، ولم تعد تستهويهم العناوين الاحتيالية، وفيما تنحو بعض الممارسات الصحافية نحو النضج، تعبث أخرى بذكاء القارئ وبجيبه.
اكتشاف خلايا نائمة للإرهاب أصبح شأنا خاصا بالداخلية، ومعركة الانتخابات لو لم تخلق خلافا بين المحميين والمقصيين لمرَّت نارها بردا وسلاما، ومؤتمرات أحزابنا الكبرى يا حسرة لم تعد تشغل أكثر من حيز صغير في زاوية مهملة من الجرائد، وتصريحات زعمائنا في قضية من القضايا، أصبح المحررون يدونونها قبل أن يسجلوها بعظمة لسانهم من فرط تشابهها وخشبيتها، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي كان يمكن أن تشكل تعاقدا يعيد ملحمة ثورة ملك وشعب إلى الوجود، بقيت حبيسة الكتب الفاخرة بألوانها الزاهية وأوراقها الصقيلة، ولم تنقذ واقعا مجتمعيا من رماده، وليس هناك روح فيما يُصنع ولا فيما يقال، ووحدها الجرائد وملفات الضابطة القضائية تحتل حيزا كبيرا في اليوميات...
وصناع القرار بالبلد نائمون، وغارقون في الصمت حتى قنة راسهم، والبلاد واقفة والنخبة جالسة، والمثقفون ينتحرون في الحانات يُصفون حساباتهم مع ذواتهم أو يركنون إلى بؤسهم، اختار جلهم المغادرة الطوعية من الوظيفة ومن الحياة العامة معا، وأعضاء حكومتنا يجرون فيما يعتقدونه سد لخصاص في الملعب السياسي.... غير قادرين على خلق كذبة جميلة، ولا على إبداع أسطورة دافئة تجعل الدم يسري في عروق الشباب الغائب عن كل تأطير والمتروك للمخدرات والفراغ وشعارات "التَّيرانات" العدوانية، والأحزاب نائمة على أذانها وأطرها مثل قطع خنفسائية تتحرك داخل رقعة الشطرنج لاحتلال المواقع "ولهلا يقلب ويشقلب بهذه الأمة".
فاللهم احفظ أمتنا كما حفظت اللسان بين الأسنان، لأن هذا الصمت يخفي وراءه أزمة عميقة..