تلك هي البدايات التي أسست لأخلاقيات مهنة النبل: الصحافة..
اليوم تبدو وسائل الإعلام عندنا بكافة تفريعاتها: السمعي – البصري، المكتوب، الإلكتروني - باستثناء بعض الانفلاتات - كما لو أنها ضد وظائفها الطبيعية في التنوير والتحديث، إذ أضحت تقتات، عبر نشر البلاهة وترسيخ اللامعقول، الميل إلى الفضائحي، وإعادة إنتاج سلوكات الاتكالية والميولات الغريزية وعدم احترام الحياة الخاصة للناس ومراعاة حميمياتهم الإنسانية جداً.
أكبر ضحية لوسائل الإعلام الوطني – والتعميم قاتل – هو الصدق والحقيقة.. فن الكذب أضحى سلطة في الإعلام الذي يخترق حياتنا.. ينشر القيم الجاهزة، يدعم التقليد والمحافظة، يقتل الحس النقدي، ويلتفتُ إلى الهامشي (ليس بمعْناه الفلسفي منذ نيتشه إلى هيدغر)، أقصد باستغلال الهامشي في وسائل الإعلام المغربي تضخيم الجزئي، التافه والعابر، والذي ليس له كفاية علمية أو منهجية لجعلنا نفهم الأحداث والوقائع في سياقها السليم، وهي بذلك لا تحافظ على قيمة الخبر وجدوى المعنى، و"حين يهجر المعنى العالم، يصير كل شيء مستباحاً" كما يعلمنا الحكيم دوستويفسكي.
ثمة ملمح آخر للتوجهات الجديدة لأغلب وسائل الإعلام بالمغرب، باستثناء منارات قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ويتمثل في كونها أضحت غير مزعجة، ملساء، يهمها المغايرة لا الحداثة، السطحي من الزبد الذي يذهب جفاء، لا العميق مما ينفع الناس ويمكث في أذهانهم وقلوبهم، سلاحها هو البداهة لا الشك والسؤال في صحة المعلومات، والاستسلام للمعطى الجاهز والمعلومات المغلفة والموجهة وترسيخ الوهم.
الملمح الآخر المرتبط بهشاشة المقاولات الإعلامية السريعة العطب هو التحول عن الوظيفة الإخبارية أي مد الناس بالمعلومات وتركهم أحراراً ليتخذوا المواقف المستقلة لهم باعتبارهم أفراداً يمتلكون حرية الاختيار.. القبول أو الرفض، التشكيك أو التصديق، حيث أضحت العديد من وسائل الإعلام تلجأ إلى التوجيه، التعليق أسبق من الخبر...
جزء كبير من هذه الأثافي مرتبط بتحكم الإعلاني في الإعلامي، التجاري في الإخباري، لذلك لا تُمس شركات الإشهار السخية بأي نقد حتى ولو كان أثر ضررها على الناس واضحاً، فقد نبا إلى علمنا أن صحافيا حمل قالب سكر وسطه قطعة قصديرية صدئة، فما كان من مدير النشر إلى أن سلَّم القطعة إلى المكلفة بالإعلانات التجارية لابتزاز الشركة المعنية وتحويل القيمة الإخبارية التي تنقذ مجتمعا من المستهلكين إلى قيمة تجارية كربح صافي للمؤسسة الإعلامية، نفس الشيء حدث مع بضائع من مختلف الأشكال تُضر بمصلحة المستهلكين ويتم حجبها عن الناس وتحويلها إلى أداة لابتزاز الشركات المعنية مقابل الصمت على الفضائح في كل المجالات، أبمثل هذا الإعلام يمكن بناء مجتمع ديمقراطي أفراده معلومون بشكل جيد؟!