في بداية تسعينيات القرن الماضي شهدت المنطقة المغاربية أهم حدث اندماجي في تاريخها الحديث، تمثّل في تأسيس الاتحاد المغاربي الذي استند إلى تقارب مغربي جزائري بعد عقود من القطيعة. وقد جرى التقارب المغربي الجزائري بفضل وساطة العاهل السعودي الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. لكن التفاهمات المغاربية والعربية لم تكن معزولة عن سياقات إقليمية ودولية. فقد جاءت في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين وبتشجيع أوروبي، ذلك أن الأوروبيين وفي مقدمتهم إسبانيا والبرتغال وجدوا مصالحهم في تقارب الجارين المغاربيين.
في سنة 1992 أطلق مشروع أنبوب الغاز المغاربي الأوروبي (بردو دوران فاريل) الذي ينقل الغاز الطبيعي من جنوب الجزائر عبر الأراضي المغربية إلى إسبانيا والبرتغال ويوفر أكثر من 30 في المائة من الطاقة الكهربائية للجزيرة الأيبيرية.
وفي نوفمبر المقبل ستنتهي صلاحية العقد الموقع بين الأطراف الأربعة الموقعة عليه، وبسبب التوتر القائم حاليا بين الرباط ومدريد والأزمة المزمنة بين المغرب والجزائر يبدو مستقبل المشروع الاستراتيجي الضخم غامضا، فهل ستنحني الأطراف المتنازعة إلى منطق المصالح الاقتصادية والاستراتيجية أم أن تلك المصالح ستضيع تحت أقدام المتصارعين.
ومن مفارقات الزمن والجغرافيا أن مشروعا استراتيجيا واعدا بالمنطقة يواجه بدوره، ولكن قبل أن يولد، سؤالا مصيريا.
مشروع استراتيجي واعد في "غرفة الانتظار"
في يونيو 2020 وقعت ألمانيا والمغرب اتفاقا لإقامة مشروع طاقة الهيدروجين الأخضر، بالاعتماد على طاقة الشمس والرياح. ومن شأن المشروع الموقع مع المغرب تحويل هذا البلد الشمال أفريقي إلى أكبر مصدّر عالمي لطاقة الهيدروجين الأخضر الصديقة للبيئة أو ما يصطلح عليه "النفط النظيف".
وحسب وزارة التنمية والتعاون الدولي الألمانية فان المشروع يحقق ما يعادل 2 إلى 4 في المائة من الحاجة العالمية إلى مواد الطاقة المتجددة. ويمكن أن يلبي حوالي 25 في المائة من احتياجات السوق الألمانية من الطاقات المتجددة التي سيزداد الاعتماد عليها بشكل مضطرد في ضوء ضرورة تقليص الطاقات المسببة لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، واتساع الاعتماد على على الطاقة النظيفة مثلا في قطاعات السيارات والقطارات والكهرباء.
وتتوقع دراسات هيئات ألمانية متخصصة في الطاقة، منها معهد فراونهوفر للطاقة الشمسية (ميونيخ) والاتحاد الألماني لهيئات الطاقة المتجددة بأن حاجة البلاد إلى الكهرباء ستزداد حتى عام 2050 بنسبة 60 في المائة مقارنة مع سنة 2018، ومن المتوقع أن يسجل استهلاك الكهرباء ارتفاعا ملموسا بدء من سنة 2030.
وأكدت الحكومة الألمانية تخصيص 9 مليار يورو لاستراتجية طاقة الهيدروجين، سبعة منها تشمل الاستثمار في الانتاج وتقنيات وتجهيزات النقل، وملياري يورو لشراكات الاستثمار الدولية.
لكن المشروع الواعد بات الآن في "غرفة الانتظار" بسبب الأزمة التي طرأت في علاقات الرباط وبرلين منذ شهر مارس آذار الماضي، عندما قرر المغرب تجميد الاتصالات بالممثليات الديبلوماسية الألمانية ودعا سفيرته ببرلين إلى التشاور على خلفية تباعد "عميق" في وجهات النظر حول ثلاث ملفات: الصحراء الغربية والأزمة الليبية والتعاون الأمني.
ألمانيا والمغرب..شراكة متأرجحة
ورغم اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بنظيره المغربي ناصر بوريطة نهاية شهر يونيو (حزيران) في روما على هامش اجتماعات مجموعة العشرين، لم تظهر بوادر تفاهم حول الملفات الخلافية بين البلدين، وفي غضون ذلك بدأت ترتفع بعض الأصوات التي تحذر من تداعيات الأزمة الحالية على مستقبل التعاون الاقتصادي وخصوصا في مجال الطاقة. فقد باتت المساعدات التي خصصتها ألمانيا للمغرب سنة 2020 وتبلغ قيمتها مليار و400 ألف يورو لدعم الاصلاحات في المغرب ولإقامة مشاريع بنيات تحتية وفي مجال الطاقة ومواجهة تداعيات جائحة كورونا، (باتت) في حالة "تعليق" في انتظار حل الخلافات السياسية، وهو ما يثير قلق رئيس غرفة التجارة الألمانية بالدار البيضاء اندرياس فينتزل.
ولدى ألمانيا خيارات عديدة في البحث عن شركاء في مجال الطاقة المتجددة، وتفيد عدد من الدراسات أن حوالي 80 في المائة من موارد الطاقة المتجددة تتركز في عشرة دول بأفريقيا وأوروبا وقارات أخرى، لكن خبراء وساسة في ألمانيا يتفقون على أن اختيار دول شمال أفريقيا وعلى رأسها المغرب كشريك استراتيجي في هذا المجال، يستند إلى معايير النجاعة الاقتصادية وفرص تصدير التكنولوجيا والصناعات الألمانية وعوامل القرب الجغرافي من أوروبا والاستقرار السياسي، كما يؤكد ذلك بيرند مولر في مقال له بموقع "تيلي بوليس" بتاريخ 30 مايو أيار الماضي، حذر فيه من مخاطر الأزمات الكامنة على مشاريع الطاقة بشمال أفريقيا.
يعتبر المغرب شريكا قديما وتقليديا لألمانيا، وفي مجال الطاقة المتجددة قطع التعاون بين البلدين خطوات على امتداد السنوانت العشر الأخيرة، ويرى
وبينما يبدي شتيفان ليبينغ رئيس الجمعية الأفريقية للأعمال الألمانية عدم قلقه من مستقبل مشاريع طاقة الهيدروجين في حال فشلت الخطة القائمة مع المغرب، ويرى أن الخلاف الديبلوماسي مع المغرب قد لا يتم تبديده في القريب العاجل. ليبينغ تحدث عن خطوات قطعت في مشاريع تساهم فيها شركات ألمانية بعدد من البلدان الأفريقية. ووفق هذا الرأي فان المشاريع المتفق عليها مع المغرب مرشحة للتأجيل على الأقل لمدى سنة أو سنتين ريثما تتضح الرؤية على الصعيد السياسي.
لكن زميله كارل هيوزغن رئيس اتحاد الهندسة والصناعات الميكانيكية يرى أن مشروع انتاج الهيدروجين الأخضر مع المغرب سيكون أفضل لألمانيا من أنبوب الغاز الروسي Nord Stream II، وهو المشروع الذي يثير خلافا عميقا مع الإدارة الأمريكية سواء السابقة في عهد دونالد ترامب أو الحالية مع جو بايدن. وفي حوار لصحيفة "أوغسبيرغر ألغماينه" شدد رئيس أكبر شبكة لهيئات الصناعات الهندسية والميكانيكية بأوروبا، على أن أهمية المشروع المخطط مع المغرب تكمن في الحاجة المستقبلية إليه في ظل الاتجاه نحو الطاقة النظيفة.
من جهته يحذر كريستوف هوفمان المتحدث باسم مجموعة سياسة التنمية لكتلة الحزب الليبرالي الحر ببونسدتاغ، من "التهور بشطب برنامج التعاون مع المملكة المغربية في مجال الطاقة المتجددة" ويرى أن خطوة من هذا القبيل لن تكون في مصلحة ألمانيا وحاجتها الماسة للهيدروجين الأخضر. ويرى الخبير السياسي الألماني أن "المغرب طالما كان ركيزة للاستقرار في شمال أفريقيا" وحث وزير الخارجية هايكو ماس على التوجه إلى الرباط معتبرا أن "زيارته ستكون أكثر أهمية لتهدئة الأمور".
على الجانب المغربي، لا يجري الحديث بشكل مباشر حول تداعيات سلبية متوقعة للخلاف مع ألمانيا حول مستقبل التعاون في مجال الطاقة المتجددة. في الوقت الذي أكد فيه وزير الطاقة والمعادن عزيز رباح في مؤتمر صحفي عقده قبل أسبوع في الرباط، أن الحكومة ستركز بشكل خاص على "المعادن الإستراتيجية" مثل المستخدمة في قطاع الطاقة المتجددة. وردا على سؤال لنائب من كتلة الاشتراكيين في البرلمان المغربي حول المخاوف من تأثير بعض الخلافات الدبلوماسية مع الشركاء الأوروبيين على الاستثمارات في قطاع الطاقة، قال الوزير رباح أن 12 دولة تستثمر في المغرب بما مجموعه 45 شركة، منها 5 شركات مغربية.
وكان لافتا أن المغرب أجرى في الآونة الأخيرة مشاورات مع كل من بريطانيا وقطر حول إقامة مشاريع مشتركة في مجال طاقة الهيدروجين.
أوراق ألمانيا في شمال أفريقيا
بعد ثلاثة أشهر من الأزمة الديبلوماسية المفتوحة بين المغرب وألمانيا، تبدو تداعياتها السلبية على الأرض فيما يتعلق على الأقل بمشروع الشراكة حول الطاقة المتجددة. وسواء كانت تلك التداعيات قصيرة المدى أم متوسطة المدى، فان السؤال المحوري يطرح حول أفق هذه الشراكة في ظل الخلاف في الرؤية السياسية بين الرباط وبرلين إزاء ملفات الصحراء الغربية والتعاون الأمني والاستراتيجي وصولا إلى موضوع الأزمة الليبية.
ورغم أن قضايا السياسة الخارجية الألمانية تحظى باجماع القوى السياسية الرئيسية في بوندستاغ، وهو ما يقلل من تأثيرات التغييرات في تركيبة الحكومة بعد الانتخابات على توجهات السياسة الخارجية، إلا أن الانتخابات المقبلة يبدو لها طابع خاص. ذلك أن الاستطلاعات تمنح حزب الخضر فرصا مهمة في الاقتراع ومن ثم احتمال تحوله إلى شريك في الحكومة المقبلة، ومن غير المستبعد أن يتم ذلك على حساب الاشتراكيين الذين يسجلون تراجعا ملحوظا منذ سنوات.
ويولي "الخضر" أهمية كبيرة لقضايا البيئة ومشاريع الطاقة النظيفة، وهو ما قد يجعلهم - خصوصا إذا تولوا رئاسة الديبلوماسية الألمانية – يضعون ملف طاقة الهيدروجين ضمن أولويات الديبلوماسية الألمانية. فهل يعني ذلك احتمال إقدام الحزب على إحداث تغيير في الموقف الألماني إزاء ملف الصحراء الغربية الذي يجتاز منعطفا مهما وخصوصا بعد اعتراف إدارة الرئيس السابق ترامب بسيادة المغرب على الصحراء وأكدت إدارة الرئيس بايدن ذات الموقف؟
حزب الخضر الذي يضع أيضا في صدارة أولوياته قضايا حقوق الانسان وتسوية النزاعات اعتمادا على الشرعية الدولية، لا يتوقع أن يبتعد عن موقف ألمانيا التقليدي من ملف الصحراء الذي جدد وزير الخارجية الحالي التأكيد عليه، لكن محللين يعتقدون بأنه سيكون أمام الديبلوماسية الألمانية في المرحلة المقبلة خيارات أوسع من مجرد التوقف عند موقفها التقليدي، الذي بات يُنظر له في الرباط على أنه "خرج من منطقة الحياد" عندما بادرت ألمانيا بالدعوة لاجتماع لمجلس الأمن الدولي إثر الإعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء.
فألمانيا التي تقيم علاقات استراتيجية قوية مع الجزائر، وتقدم مساعدات إنسانية سخية للاجئين الصحراويين في مخيمات تيندوف جنوب غرب الجزائر، سبق لها عندما كان رئيسها السابق هورست كويلار يتولى مهمة المبعوث الدولي في الصحراء، أن حاولت لكن دون جدوى دفع المسار الأممي لحل النزاغ الذي عمّر لأكثر من أربعة عقود.
وفي ظل اتساع الهوة بين المغرب والجزائر، ما تزال ألمانيا تحتفظ بأوراق مهمة لدى الطرفين قد تتيح لها إمكانية إحداث إختراق في النزاع الذي يعرقل فرص الاندماج بالمنطقة المغاربية منذ عقود، ويلقي بتداعيات سلبية إقتصادية وأمنية واستراتيجية على أوروبا.
ومن هذا المنطلق لن يكون نجاح ألمانيا فقط سياسيا وديبلوماسيا بل اقتصاديا أيضا لأنها ستوفر بذلك شروط الأمن والاستقرار للمشاريع الاستراتيجية الواعدة التي تود تحقيقها في مجال الطاقات المتجددة وغيرها، وبذلك تكون الطاقات المتجددة قد ساهمت بشكل أساسي في إعادة صياغة واقع وتاريخ المنطقة!
منصف السليمي