ولدت المقدسية عائشة المصلوحي في حي المغاربة بالقدس سنة 1946، أي قبل سنتين فقط من إعلان قيام إسرائيل، من أب مغربي وأم مقدسية فلسطينية، وكان الحي في حينه يؤوي 138 عائلة من دول شمال إفريقيا.
من القدس إلى المغرب
وفي تصريح لموقع يابلادي تقول عائشة التي تحرص على إدخال بعض كلمات الدارجة المغربية في كلامها، إن والدها ينحدر من تامصلوحت قرب مدينة مراكش "ومنها جاء اسمي العائلي".
وقبل والد عائشة، كان المغاربة قد استقروا في القدس في القرن 12 الميلادي، حين طلب القائد صلاح الدين الأيوبي من سلطان المغرب يعقوب المنصور مد يد العون له وتزويده بأساطيل بحرية لتسانده في تحرير مدينة القدس من الصليبيين، وبعد تحرير المدينة المقدسة أمر صلاح الدين بإسكان المجاهدين المغاربة في المدينة، وقال حينها "أسكنت هنا من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة".
وكان والد عائشة قد قدم شابا إلى فلسطين مع قوافل الحجاج لمساعدتهم، حيث كان من عادة المغاربة قديما أن يمروا على المسجد الأقصى بعد انتهاء الحج، ورفض بعد ذلك العودة إلى المغرب، واشتغل حارسا لأحد أبواب المسجد الأقصى، حوالي 51 سنة، وتوفي عن عمر ناهز 90 عاما.
وقالت عائشة إنه "بعدما توفي والدي الحاج أحمد بن محمد بن قاسم المصلوحي قبل حرب 1967، خيروا والدتي بين الحصول على مبلغ من المال كتعويض، أو وضع واحد من أبنائه مكانه، وقبل أحد إخوتي أن يخلف والدي، وعمل بدوره أكثر من 30 سنة".
وتتذكر المصلوحي حال الحي قبل احتلاله من قبل الإسرائيليين سنة 1967، قائلة "كان حيا عامرا، لم تكن فيه تفرقة بين الجزائريين والتونسيين والمغاربة"، وأوضحت أنها كبرت وتترعرعت بالحي، وأنهت دراستها الثانوية به، إلى أن تزوجت منتصف الستينات.
لكن مع هزيمة العرب سنة 1967 في حرب النكسة ستنقلب حياة عائشة رأسا على عقب، حيث وجدت نفسها مضطرة لترك أرض فلسطين والبحث عن مكان تلجأ إليه، وقالت "هُجِّرنا مع باقي النازحين إلى الأردن، ثم عمل زوجي في السعودية لمدة عام، ثم عدنا إلى الأردن، وبعد ذلك رحلنا إلى المغرب للاستقرار فيه".
"أقمنا في الرباط، وحصلنا على وظائف كمنحة ملكية لمساعدة النازحين، وكان وضعنا جيدا. اشتغلت أنا بوزارة الشبيبة والرياضة والشؤون الاجتماعية وكنت في قسم الشؤون الاجتماعية، وزوجي المنحدر من بومالن داداس اشتغل في قسم المحاسبة".
لكن بعد وفاة زوجها في حادثة سير بمدينة ورزازات سنة 1974، قررت العودة إلى فلسطين، "اعتُمد قانون يسمى جمع شمل العائلات، وبما أن والدتي بقيت في مدينة القدس وحازت على الوثائق التي تثبت إقامتها فيها، حصلنا على الإذن بالدخول إلى أرضنا ومسقط رأسنا من الاحتلال وبقينا إلى يومنا هذا".
حي المغاربة الآن
"هل بقي لنا حي؟ هناك أرض شاسعة وفراغ كبير، هناك ساحة يقيمون عليها شعائرهم الدينية، لن يبقى من حينا سوى زاوية المغاربة التي نقيم فيها حاليا"، هكذا تحدثت عائشة المصلوحي عن حال حيها الآن.
واسترجعت ذكريات احتلال القدس وقالت "كنت متزوجة ولم أشهد دخول الإسرائيليين إلى الحي، ولكن شاهدت دخولهم إلى القدس كاملة، لأني كنت أسكن أنا وزوجي في منطقة بعيدة عن حي المغاربة، إخوتي وأشقائي كانوا في قلب الحي. ووالدتي تحكي أنه في صباح 11 يونيو 1967 بدأوا ينادون بمكبرات الصوت من كل الاتجاهات يطالبون السكان بإخلاء الحي ويقولون "غادرو سكناكم جيش الدفاع سيبدأ بهدم الحي"، وهذا الأمر يعترفون به في إعلامهم".
وبعد عملية الهدم تحكي عائشة أنهم "عثروا على ثلاثة جثث لامرأة ورجلان تحت الأنقاض، كانوا من كبار السن لم يسمعوا النداء ولم يخرجوا وهدمت منازلهم فوق رؤوسهم. وهم يستعملونه الآن كساحة للصلوات". لكن الاحتلال لم يتمكن من تدمير ذاكرة سكان الحي رغم تسوية منازلهم بالأرض.
"في صغري كان سكان الحي يحافظون على العادات والتقاليد المغربية، خاصة في رمضان وفي الأعياد. لابد أن يكون في رمضان توزيع للطعام على جميع سكان الحي، من الوقف المغربي في القدس مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع. كان رجال الحي يجتمعون يوم الخميس لذكر الله، ويوم الجمعة يقيمون غذاء مشتركا، تقوم سيدة كبيرة بفتل المفتول وإضافة المرق والخضار واللحم له (الكسكس)".
وتعتز المصلوحي بجذورها المغربية وقالت "من أنكر أصله فلا أصل له، أنا جذوري مغربية وأعتز بها جدا، وفلسطينية وأعتز بها. المغاربة يحبون الجهاد في سبيل الله وكرماء، الإنسان لو لم يكن مغربيا لتمنى أن يكون له بعض من الخصائل الحسنة التي توجد فينا".
ولم يتبق الآن في الحارة سوى عشر عائلات، فيما انتقلت عائلات كثيرة مرغمة إلى البلدة القديمة بالقدس، "كثير من المغاربة يعيشون في القدس ومنهم إخوتي الذين يقيمون في بيت حنينا".
ونفت أن تكون الأسر التي لا تزال مرابطة بحي المغاربة، تتلقى أي دعم مباشر من المغرب، مشيرة إلى أنه يمكن أن يكون هناك دعم عبر السلطة الوطنية الفلسطينية، وتابعت " قبل 1967 كان مغاربة من الميسورين يأتون ومعهم صدقات أو زكات أموالهم، ويتبرعون بمبالغ سخية للعائلات، وبعد 1967 منع الناس من الوصول إلى فلسطين".
صدمة التطبيع
وتؤكد عائشة أن خبر تطبيع العلاقات المغربية الإسرائيلية شكل مفاجأة كبيرة لها ولعدد من المقدسيين الذين تعود أصولهم إلى المغرب وقالت "كان وقعه مؤلما، بالنسبة لي ولكثير من المقدسيين. ماذا ينقص المغرب حتى يطبع مع كيان صهيوني غاصب مغتصب، وخاصة أن المغاربة كانوا من المسلمين الأوائل الذين ناصروا القضية الفلسطينية ودماؤهم لازالت موجودة على أرض فلسطين".
وأضافت "إنها السياسة وما أقبحها من سياسة، المغرب لن يجني ربحا ولا نفعا من هذا التطبيع، من سيربح هو الكيان الصهيوني، ولا نقول إلا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل. هناك في المغرب أشراف وأحرار وعلماء، سينبهون الحكومة إلى أخطار هذا التطبيع".