في عشرينيات القرن الماضي كان المغرب يرزح تحت نير الاستعمار، أنداك بدات البوادر الأولى لظهور السينما المغربية على يد المخرج المغربي الراحل، محمد عصفور، الملقب بـ عبقري وأب السينما المغربية، حيث حاول آنذاك خلق سينما بديلة عن السينما الكولونيالية، التي كانت تعتبر الإنسان المغربي، إنسانا دونيا جاهلا مقابل تقديمها للإنسان الفرنسي في صورة الانسان المتحضر و الواعي و المثقف.
وينحدر عصفور من مدينة آسفي وبالضبط من دوار البخاتي جماعة حسيم. ولد سنة 1926، انتقل هو وعائلته إلى مدينة الدار البيضاء، وبالضبط إلى منطقة ولاد عيشة، المعروفة الآن بدرب غلف، ولم يكن آنذاك يتجاوز الثلاث سنوات، لم يلتحق بالمدرسة، حيث اضطر للعمل مبكرا من أجل مساعدة أسرته الفقيرة، اشتعل في البداية كماسح للأحدية، بعدها انتقل إلى توزيع الجرائد، و عمل أيضا نادلا بإحدى مقاهي المعاريف، ثم ميكانيكيا، حسب ماذكره، أحمد فرتات مؤلف كتاب محمد عصفور.
حلم تحول إلى حقيقة
تقول عائشة عصفور، ابنة محمد عصفور، في وثائقي بثته قناة الجزيرة القطرية، إن والدها اكتشف السينما لأول مرة، عندما دخل ليشاهد الفيلم الأمريكي "طرزان" بقاعة سينما "ريالطو" بالدار البيضاء، وأثناء مشاهدته للفيلم، سقطت قطرة ماء من أعلى السقف على وجهه، في نفس الوقت الذي كان يعرض مشهد لطرزان، وهو يقفز في النهر، هو وما جعله يعتقد حينها أن تلك القطرات نابعة من الشاشة، وعند انتهاء الفيلم، تسلل عصفور إلى كواليس العرض، لاكتشاف كيفية تحويل صور جامدة إلى شريط متحرك، لكن لم يستطع حل اللغز آنداك. وأصبح بعد ذلك مولوعا بجمع شرائط الأفلام التي سبق عرضها وتلاشت بعدما تم الاستغناء عنها، حيث كان يحملها إلى بيته ويشاهدها على ضوء شمعة.
وواصلت سرد قصة والدها قائلة إنه في أحد الأيام، وبينما كان يوزع الجرائد على البيوت، لمح، فرنسيا يصور ابنه داخل حديقة بيته، دعاه بعدها الأجنبي، وشرح له ماهية تلك الآلة وأثناء تجوله في أحد الأسواق لمح آلة تصوير، تشبه تلك التي يملكها الأجنبي، فبدأ بجمع المال إلى أن تمكن من اقتناء آلة شبيهة بما لامسه وشاهده.
ومن هنا بدأت المغامرة، ففي سن مبكرة استطاع عصفور، تصوير مجموعة من الأشرطة القصيرة الصامتة، بغابة سيدي عبد الرحمان المشهورة في ضواحي الدار البيضاء، مستوحيا أفكارها من أفلام أمريكية، أولها فيلم "طرزان" حيث لعب دور المخرج و الممثل و كاتب السيناريو ليلقب بعدها بـ"طرزان" المغربي.
خلق الفرجة للمغاربة
ولم يكتف عصفور، باستغلال ورشته التي كان يعمل فيها كميكانيكي، لصناعة وسائل مساعدة على التصوير، بل كان يستغلها أيضا، في يوم الأحد كقاعة لعرض أفلامه القصيرة الصامتة، مقابل مبلغ زهيد للراغبين في مشاهدتها.
كان عصفور حينها، هو الممثل والمنتج والمخرج والقابض للمداخيل، كما كان يعلق بموازاة عرض أفلامه، حيث كان يجسد أصوات شخصيات الفيلم و الريح، و خلال المشاهد التي كانت تجسد عراك بين شخصين داخل الفيلم، هو من كان يقوم بضرب يده، لهذا أطلق عليه الكاتب أحمد فرتات اسم "السينمائي المطلق".
بل وحتى الدعاية لفيلمه كان يقوم بها بنفسه، من خلال حمله لملصق الفيلم الذي كان يصممه يدويا، ويحمله على ظهره متنقلا بين أحياء الدار البيضاء الشعبية، معلنا عن توقيت عرض الفيلم والمبلغ المطلوب.
ليكون له الفضل بعد ذلك في مشاهدة المغاربة لأفلام، بها شخصيات مغربية، في أماكن مغربية، وصاحبها مغربي، مساهما بذلك بداية في إحداث القطيعة مع السينما الكولونيالية وولادة عهد جديد من الإبداع السينمائي المغربي، فبعشقه للصورة و شغفه بالسينما، استطاع عصفور أن يخلق الفرجة للمغاربة.
صدفة خير من ألف ميعاد
جمعت الصدفة بين عصفور وماكدالينا (من أب مغربي و أم ألمانية) سنة 1948، في بيت أحد أصدقائهما المشتركين، يدعى حميدو الوطني، كان من الشباب المقاومين في تلك المرحلة، وهو من قدم حينها عصفور لماكدالينا، لكن باسم طرزان، ما جعلها تعتقد أن اسمه الحقيقي هو فعلا " طرزان"، إلى أن اكتشفت بعد مدة، أن اسمه الحقيقي هو محمد، ونشأت بعدها بينهما قصة حب، توجت بزواج، وبالرغم من ذلك ظلت تناديه بطرزان طيلة مدة زواجهما.
وحسب عدة شهادات، فلم تكن ماكدالينا زوجته فقط، بل كانت شريكته في الحياة العملية أيضا، فبحكم اشتغالها في مجال التصوير، بألمانيا، كانت تساعده في تحميض الأفلام، و تقوم بمساعدته أيضا في تصوير الأفلام، و التمثيل أيضا، و لم تكتف بذلك فقط، بل كانت تصنع ملابس الممثلين، و تهتم أيضا بمكياجهم، كما كانت تقوم بإعداد وجبات لطاقم العمل، حسب ما جاء على لسان محمد فرتات مؤلف كتاب محمد عصفور في الوثائقي الذي بثته قناة الجزيرة.
وفي نفس الشريط الوثائقي قال عبد الله بايحيى، مدير الخزانة السينمائية سابقا "لو لم تكن ماكدالينا وراء عصفور، لما حقق ذلك النجاح".
زرع و لم يحصد
تمكن عصفور، سنة 1958 من تصوير أول شريط مغربي مطول بعنوان "الابن العاق"، اعتبره نقاد السينما في المملكة، أول تجربة حقيقية وناضجة له في المجال، إلا أنه كان ينظر إليه، كهاو فقط و ظل مصنفا ضمن قائمة الهواة الموهوبين لا أقل و لا أكثر، خاصة أنه بعد الاستقلال بدأ المغرب يعتمد على الشواهد، من أجل تنظيم وتقنين ممارسة التصوير السينمائي في البلاد، وكذا تأطير عمل المصورين، و هو ما أقصى عصفور من السينما، لكونه لم يتلق أي تكوين سينمائي، ولم يحصل على أي شهادة في المجال، بحسب ما جاء في مقال منشور على موقع وزارة الثقافة المغربية، للباحث المغربي حسن البحراوي.
وأكدت ابنته عائشة عصفور أنه اكتسب الخبرة والتجربة بفضل احتكاكه بالمخرجين والمنتجين الأجانب، الذين كانوا يأتون إلى المغرب لتصوير أفلام سينمائية، و كان عصفور حينها يقدم لهم خدمات فنية استطاع بفضلها أن يشتغل كمساعد مخرج و تقني إلى جانب أسماء عالمية كبيرة، منها ألفريد هتشكوك ويوسف شاهين وأندري زويدا وغيرهم، لكن مع ذلك لم يحظ بالاعتراف المطلوب من الجهات الوصية على القطاع السينمائي في المملكة.
هذا التهميش، استحضره الممثل المغربي عبد الرزاق البدوي، أثناء شهادته في الوثائقي ذاته، حيثووصف تكريم محمد عصفور، في إحدى دورات مهرجان مراكش السينمائي الدولي، بأنه "كان تكريما باهتا وبسيطا لم يلق بمقام شيخ السينما المغربية، حيث كان عدد الحاضرين حينها، لا يتجاوز 12 شخصا".
في سنة 2005، رحل عصفور عن الحياة الدنيا في صمت، وأسلم الروح لبارئها، عن عمر يناهز الثمانين سنة، في مصحة خاصة بالدار البيضاء.