عُرِفَت فرنسا تاريخيا بالبلد الأوروبي الوحيد الذي يصل فيه الصراع الاجتماعي والسياسي إلى منتهاه دوما منذ ثورة 1789 ومنها تنتقل الشرارة إلى بقية بلدان أوروبا، وأحداثها تلقي بظلالها على الكثير من مناطق العالم.
وكانت ثورة 1789 تحولا تاريخيا كبيرا بفرنسا والعالم، ووصفها الفيلسوف الألماني هيغل بـ"الثورة الكبرى" وقال في حقها في كتابه "فلسفة الحق": "إن فكرة الحق، مفهومه، قد أحرزت الغلبة من الوهلة الأولى، ولم يكن بوسع دعائم الاستبداد المتداعية أن تبدي بوجهها أي مقاومة. وعلى فكرة الحق بني الدستور" وكانت ثورة ضد كل المؤسسات وكل العقائد القديمة، وانتصرت للعقل والمنطق، تتويجا لعصر الأنوار ولأفكار مفكريها... وتمظهرت الأوضاع الجديدة بفرنسا في القانون المدني وإعلان حقوق الإنسان وتشكلت الجمهورية الأولى.
وعلى إثرها رسم اتجاه الأحداث بأوروبا، فقد أحدثت تغييرا شاملا في كل مناحي الحياة، وترجمه التطور المطرد للأسلوب الرأسمالي وقيمه، ولم توقفه عودة الملكية في 1815، وعكست نسخ الجمهورية الثانية والثالثة والرابعة معالم رسوخ السلطة الكاملة للبرجوازية.
التحولات التي أفضت إلى ظهور الاستعمار خلال القرن 19 بأوروبا
إثر أزمة 1873 والركود الكبير الذي تبعها والانحطاط الصناعي العالمي بدأت تتحول أوروبا إلى العهد الاحتكاري بشكل واسع أكثر من السنوات التي تلت 1860 ودشنت نهاية المنافسة الحرة، وبدأ عصر سيطرة الأبناك على مفاصل الحياة الاقتصادية واندماجها مع جميع فروع الصناعة في كارتيلات وتروستات ضخمة منذ 1876 كما أشار إلى ذلك سوبان في كتابه "اتساع أراضي مستعمرات أوربا" والاقتصادي الإنجليزي هوبسون في كتابه "الإمبريالية".
وأصبحت الاحتكارات ترسم معالم السياسة الدولية وإليها يعود الأمر في القرارات المصيرية للعقود الموالية ولم تعد الدولة إلا الجهاز التنفيذي لهذه الاحتكارات العالمية التي تمركزت واندمجت فيها كل فروع الاقتصاد، وأصبح لها نفوذ عالمي، ولم تعد تعمل في النطاق الوطني لكل بلاد وإنما أصبحت أنشطتها في كل أنحاء الكرة الأرضية بحثا على مصادر المواد الأولية وأسواق جديدة لتحقيق التراكم في الرأسمال والربح.
وحسب هوبسون كان اتجاه الاحتكار الأوروبي إيجاد مخرج لواقع الأزمة والتضخم الداخلي بتصدير الرأسمال خارج أوربا والبحث عن مصادر جديدة لمختلف المواد الاولية وأسواق جديدة فالآلة الإنتاجية الرأسمالية لا تحتمل التوقف، ومن هنا كانت ولادة الاستعمار الحديث، فاقتسمت عدد من الدول الأوربية النفوذ على المستعمرات واقتسمت وأعادت اقتسام العالم فيما بينها.
وتفجرت على إثرها حروب طاحنة بدء بالحرب الأمريكية الإسبانية سنة 1898 والحرب الإنجليزية البويرية سنوات 1899-1902 ومن ثم الحربين العالميتين الأولى والثانية والكثير من صراعات النفوذ خلال القرن العشرين وتستمر الكثير من معالم ذلك من خلال الاتفاقيات الدولية التي تعكس تقسيم العالم وإعادة تقسيمه ليس فقط إلى مستعمرات بل أيضا الى مجالات للاستثمار.
المغرب وتقاسم النفوذ الاستعماري
لم يكن المغرب إلا حالة من حالات اقتسام النفوذ على المستعمرات في العالم، لكن ذلك لم يأتي بضربة واحدة وإنما عبر الكثير من الوسائل التمهيدية التي تطورت عبر سنوات، وكان للعامل الداخلي دورا محددا ومهما في سيطرة الاستعمار على المغرب.
لقد ظهرت المعالم الأولى للاستعمار عبر تطور فئة من المحميين الأجانب الذين ربطوا علاقات تجارية واسعة مع فئات من المغاربة الذين دخلوا في نطاق الحماية القنصلية، وقد أضحى مع نهاية القرن التاسع عشر للمحميين نفوذ كبير بالمغرب ومنهم وزراء وشخصيات مخزنية.
وأمام تنامي فئة المحميين، بدأ المخزن ينخرط في مجموعة من الاتفاقيات مع الدول الأوربية بعد تكبده مجموعة من الهزائم في عدد من الحروب مع الدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر (إيسلي سنة 1844 مع الجيش الفرنسي وتطوان 1860 مع الجيش الاسباني)، والتي مهدت لفرض الحماية الشاملة على المغرب منذ 1912. ومن ذلك الحين ارتبط المغرب بفرنسا على كافة المستويات.
وبهذا كان استعمار المغرب من نتائج التطورات الاقتصادية والسياسية الفرنسية، كما أنه تفاقمت في أشكال الاستغلال الاستعماري للمغرب إبان انخراط فرنسا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفرض تجنيد المغاربة في هاتين الحربين.
وعرف المغرب في سنة 1945 "سنة الجوع" ليس بسبب الجراد ولا الطاعون ولا الجفاف وإنما بسبب فرض الاستعمار على المغاربة تخصيص موارد المغرب ومحصوله الزراعي لهذه السنة كاملا لإغاثة فرنسا المدمرة في الحرب العالمية الثانية.
وبعد الحرب العالمية الثانية تفاقم الاستغلال الاستعماري للمغرب، مما دفع بالمغاربة لإعادة التفكير في أسلوب المقاومة يتجاوز محدودية أساليب أحزاب الحركة الوطنية التفاوضية، فبدأت تتجه الأحداث إلى اندلاع الكفاح المسلح بالتزامن مع تعميم حالة حرب التحرير العالمية وبالأخص في شمال أفريقيا خلال الخمسينيات من القرن الماضي، فتشكل جيش التحرير في الشمال الشرقي وانطلقت عملياته في 02 أكتوبر 1955، وسارعت فرنسا الاستعمارية لنهج كل أساليب الممكنة للتخلص من جيش التحرير المغربي، ومنح استقلال للمغرب ووصف بـ"الناقص"، وافق عليه القصر والأحزاب السياسية بعد المفاوضات المعروفة بإيكس-ليبان.
وظل محتوى هذه الاتفاقية مجهولا لعموم المغاربة، لكن نتائج مغرب ما بعد 1956 هو ترجمة لمضمون التفاهمات التي جرت، وقد فرض على المغرب اختيارات سياسية واقتصادية وثقافية انعكست على رسم معالم مغرب ما بعد 1956 الذي سمي في الأدبيات الحقوقية "بسنوات الجمر والرصاص".
وسهرت الأطر والمؤسسات الفرنسية ذات الصلة بتكوين وتأطير كل أجهزة الدولة المغربية المشكلة حديثا، وظل التعليم فرنسيا لغة ومحتوى، كما هو الشأن بالنسبة لكل المجال الثقافي والإعلامي.
وعلى المستوى الاقتصادي استمر النفوذ المالي للأبناك الأجنبية على المغرب خاصة الأبناك الفرنسية، وحكم على المغرب على نهج محدد في كل التعاملات التجارية الخارجية ونطاق التصنيع المسموح به.
ماي 68 والاحتجاجات الحالية
قبل عقد من الزمن إبان الأزمة المالية العالمية في 2008، جر في فرنسا إعادة النقاش حول ما حدث في ماي 1968 بعد مرور أربعين سنة، وفي مقال تحت عنوان " تناقضات الحدث: ماذا تبقّى اليوم من حدث أيار/ ماي 68؟ "قال الباحث المغربي خالد طحطح: "فقد كُتِبَت حوله مقالات وكتب عديدة، وخصّصت له برامج تلفزيونية، ونقاشات ساخنة. فلماذا كل هذا الصخب حول (ماي 68)، وبشكل مبالغ فيه؟ أهو نوع من الاحتفاء بحدث انتهى إلى الأبد، أم هو، على العكس من ذلك، نوع من الاحتجاج والتمرّد على الواقع الجديد؟ وما الذي يُمثّله هذا الحدث، اليوم، من دلالة بالنسبة إلى الفرنسيين؟ وأيّ شيء تَغَيَّر بعد أكثر من أربعين سنة من وقوع الحدث؟"
وتعد الاحتجاجات الحالية من الاضطرابات الكبيرة التي شهدتها فرنسا منذ أحداث ماي1968 التي وصفت من طرف ألتوسـيـر"بأكبر إضراب في تاريخ الرأسمال"، وتتشابه معها في بعض الأوجه، ومنها أن الاحتجاجات الحالية خارج تأطير النقابات الفرنسية المعروفة والأحزاب، والتي عبر المحتجين عن رفضهم لها.
رُفعت خلال ماي 1968 شعارات عبرت عن رفض كل شيء يخص المجتمع الأوروبي آنذاك: الرأسمالية، والشيوعية السوفيتية وممثليها في فرنسا وأوروبا، ورفض المؤسسات، وهتف المتظاهرين الذين كانوا في أغلبهم طلبة وعمال ومثقفين وأستاذة بشعارات من قبيل: "المنع ممنوع" و" الانتخابات فخّ الأغبياء" و" لا تعطني حريتي سأتولى الأمر بنفسي". كما عبرت حركة ماي 68 عن رفض جذري للديمقراطية التمثيلية، للإطار البرلماني المؤسساتي ورفضهم المطلق لشكل النظام القائم وللمنطق السياسي السائد بأوروبا وفرنسا بل خرجوا عن الشَّكْل المتعارف عليه في طريقة الاحتجاج، فقد كانوا ضد تراتبية العمل، وضد تراتبية السلطة، وضد الهيمنة النقابية على الحركات حسب الباحث خالد طحطح.
ومن أوجه تأثير الأحداث التي عرفتها فرنسا في 1968 على المغرب، التي كان محورها الطلبة والعمال، استلهام الكثير من الشباب المتعلم بالمغرب وتبنى الكثير من القضايا التي أثارتها حركة ماي 68 والتي كانت جزء من حركة عالمية بأمريكا الشمالية وأوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، وساهمت إلى جانب عوامل أخرى في تبلور الاتجاه اليساري الراديكالي الماركسي خلال السبعينيات من القرن الماضي بالمغرب.