إن ما يحكيه الأفراد، انطلاقا من تجربتهم الخاصة، وأيضا الجماعية، الحزبية أو القبلية، يحول الذاكرة الخفية إلى ذاكرة علنية، ويُمَكِّن اشتغالها من تعدد إنتاج الشهادات، في الوقت الذي تتراجع فيه نسبيا الذاكرة الرسمية، أي ذاكرة الدولة.
بناءً على هذه الأمور وجب التنبه لتفادي الخلط بين الشهادة التاريخية أو الذاكرة، من جهة، والكتابة التاريخية من جهة ثانية. فما أفصح عنه محمد الفقيه البصري من شهادات للصحافة بخصوص الصراع على السلطة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وما رواه أحمد المرزوقي في "الزنزانة رقم 10"، وجواد مديدش في "الغرفة السوداء"، وما كتبه رجل المخابرات السابق، أحمد البخاري، حول قضية المهدي بنبركة، كلها إنتاجات لا يمكن نعتها بالكتابة التاريخية. بمعنى آخر لا يمكن للشهادة أن تحل محل كتابة المؤرخ.
وتعد معادلة الشهادة/الكتابة، أو بعبارة أخرى الذاكرة/التاريخ، من العوامل الأساسية التي دفعت المؤرخين إلى تكسير حاجز الصمت والتعبير عن رأيهم في الموضوع.
فالشهادة أو الذاكرة سواء كانت فردية أو جماعية تبقى ذات سمات ذاتية، انفعالية، رمزية، تفتقر إلى جهاز مفاهيمي، وتعمل بكيفية إرادية او لا إرادية على تضخيم/ تقزيم الوقائع وفق حاجيات اللحظة، ورهانات السياق المجتمعي، ومن ثم تبقى مجرد "صورة عن ماض متخيل وقع استحضاره" حسب ما ورد في كتاب "التاريخ والذاكرة، 'أوراش في تاريخ المغرب' " لعبد الاحد السبتي، والتي تكون مطبوعة بقداسة ممجدة، كما يظهر في تقديس صورة بعض الرموز السياسية، مثل محمد الخامس، المهدي بن بركة، عمر بن جلون، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله ابراهيم.... بالمقابل يقوم التاريخ على المعالجة المنهجية، على "ترتيب الماضي" بعبارة "لوسيان فيبر"، وعلى عملية بناء وإعادة بناء، وكتابة وإعادة كتابة، وصياغة وإعادة صياغة هذا الماضي، انطلاقا من سلسلة عمليات منهجية متداخلة، تشتغل بالتحليل والتأويل والنقد.
وشكلت ظرفية الانفراج السياسي وما تتيحه من اشتغال كثيف على مستوى الذاكرة، ومن رفع الطابوهات على الوقائع والأحداث، فرصة لتحرير المؤرخين المغاربة من عقدتين كبيرتين: أولا عقدة الحماية المرتبطة بثقل التحول الذي كان وراءه الفرنسيون، وبضرورة تفسيره بعيدا عن التشنج المعرفي.
وثانيا، عقدة ما بعد الحماية المتصلة بثقل المخزن وتقلبات الأحوال السياسية، فالمؤرخون اليوم يساهمون في النقاش حول قضايا الساعة بصورة نوعية بفضل العمق الزمني الذي يمتلكونه. إنه تراكم أولي ضروري، معرفي ومنهجي، من شأنه أن يُفضي إلى أبحاث تمكن من فهم ما جرى وما يجري بشكل موضوعي.
ويقف المتتبع لتجاذبات الذاكرة والتاريخ في تاريخ المغرب، حضور تناقض في إنتاج الذاكرة بين الفرقاء السياسيين، فهناك فاعلون سياسيون ينتظرون تدخل المؤرخ حينما يتم الحديث عن وثائق ذات حساسية معينة، ولا يعبرون عن نفس المطلب حينما تنشر وثائق تدين ممارسات تيارات سياسية معادية، وهذا ما يعقد من مهمة المؤرخ، بين الرغبة في توضيح ملابسات الماضي، وبين هاجس حماية صورة بعض الشخصيات.
وهو ما نلمسه من إقدام بعض الدراسات التاريخية على نشر بعض الوثائق، بخصوص تاريخ الحركة الوطنية، مما يوحي أن الحديث عن بعض أفعال الحركة الوطنية أصبح من الطابوهات والمحرمات، وهو ما قد يضرب بعمق مفهوم الحياد القيمي الذي يتبناه المؤرخ، فكتابة الذاكرة هي التي أتاحت إمكانية الكتابة التاريخية حول الماضي القريب، من خلال وجود عرض وطلب للتاريخ القريب، كما أن كتابة التاريخ الراهن أثارت تعدد المحكيات وساهمت في تراجع مساحة المحظورات.
وحاصل الأمر أن ما ينتجه المؤرخ، في ظل هذه النقاشات المتعددة الاختصاصات ليس بالأمر الهين كما قد يتصوره البعض، الأمر الذي أكد عليه محمد حبيدة في كتاب "التاريخ الراهن وراهنية التاريخ" لأن عليه من جهة، أن يتحقق من الوثائق ويواجه بعضها البعض لاستخراج المعلومة، وأن يعالج بعض النصوص كأدبيات السجون مثلا بطريقة تجمع بين الفهم في الأدب، والفهم في علم النفس.
وعليه من جهة ثانية، أن يدخل في حوار مع العلوم السياسية والاجتماعية والصحافة، أي كل القطاعات المعرفية والإعلامية المعنية بالحاضر، وكذلك مع عموم القراء والمتتبعين المتعطشين للاطلاع على ما يقوله التاريخ.