الزمن ليس زمن البحث عن ما يدين الآخر ويحمله أسباب فشل تأسيس الحكومة ، إذ من المفروض اليوم أن تستغل كل الأطراف المعنية بتأسيس الحكومة الفسحة الزمنية المتاحة قبل انطلاق موجة من المشاورات الجديدة للوقوف على الأسباب الذاتية والموضوعية التي أدت لاستمرار البلوكاج لمدة خمسة أشهر والتفكير في سبل تجاوزها .
قد يكون ما حدث أشبهه بفريق لكرة القدم له رئيس كفؤ ولاعبين مقتدرين وجمهور رائع ومدرب له صيت عالمي ولكن النتائج تكون عكس التوقعات . في مثل هذه الحالات غالبا ما يُلجأ إلى تغيير المدرب أمام استحالة تغيير اللاعبين على أمل أن تحدث " انطلاقة جديدة" ( dėclic ) للفريق . فبنفس اللاعبين وبتغيير طفيف في تموقعهم وخطة لعبهم مع الحرص على عدم فقدان الفريق لهويته، قد تأتي النتائج المتوخاة . وسواء غير حزب العدالة والتنمية مواقفه من التفاصيل التي أدت إلى عرقلة تأسيس الحكومة برآسة السيد عبدالإله بنكيران أم لا فأكيد أن شخصية وعقلية ونفسية الرئيس المعين المرتقب ستكون لها دور رئيسي في إدارة المشاورات . من هنا أحب أن أنوه إلى أن أحسن ما يمكن أن تقوم به الأحزاب المعنية بتشكيل الحكومة -وكل الأحزاب المغربية معنية - هو أن تقلل من الكلام والبيانات ومن الدخول في السجالات البوليميكية في ما بينها .
عندما تقرأ وتستمع إلى ما يقوله الكثير من المنتسبين للعدالة والتنمية أوالمتعاطفين معها وحتى بعض المعارضين اليساريين والإسلاميين الرافضين للعبة السياسية تجدهم يهاجمون التجربة السياسية المغربية الجارية ويسمونها بأنها غير ديمقراطية ومتحكم فيها بدلالة ما عشناه في الخمس أشهر الأخيرة من بلوكاج وعبث سياسي . وأقول لكل هؤلاء مع احترامي الشديد لرأيهم وموقفهم أن الدلائل على قصور التجربة السياسية سواء على المستوى الدستوري أو على مستوى الواقع كثيرة من أن تحصى وتعد وليس هناك عاقل يدعي بتمام ونضج التجربة الحالية فلا زلنا إزاء الانتقال إلى الديمقراطية بكل ما تعنيه كلمة الانتقال من عوائق فكرية وأيديولوجية وطبقية تغديها التمثلات القبلية الخاطئة ويغديها الخوف من الآخر المختلف ومن مخاطر الارتداد والنكوص على الأعقاب . ولكن اسمحوا لي أن أنوه أن ما حدث ومهما كان رأينا فيه وموقفنا منه فهو من صلب العملية الديمقراطية . لقد اكتشفنا بواسطة " المسبار الديمقراطي "الوجه المخفي من الديمقراطية وهو وجه غير مشرق وبه الكثير من النذوب و العيوب والنواقص ، هاجمها على سبيل مثال لا الحصر من قبل ماركس ولينين وهاجمها من بعد شومسكي بعد أن أحصى نقاط ضعفها ومثالبها ودسائسها وعدها عَداًّ . فمن بين ما ينتقده ماركس في الديمقراطية أنها تبرر وتشرعن لحكم الأقلية في مواجهة الأغلبية . أما لينين فقد اعتبرها من مخلفات النظام بورجوازي العفن في حين ذهب شومسكي إلى القول أن اللعبة الديمقراطية في الغرب وخاصة في أمريكا يعتريها الكثير من الشوائب لأنها عادة ما يحتكرها من يمتلك المال والإعلام وتحتكرها اللوبيات . ولكن مع كل النقد الموجه للديمقراطية فأنا أتبنى رأي رئيس الحكومة البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية ويلسون تشرشل حينما يقول في الديمقراطية أنها أحسن نظام من بين كل النظم السيئة ( أحسن الأسوأ) . .
نعم ما جرى ومهما يكن تحليلنا له فهو جزء من اللعبة الديمقراطية ويتطلب منا اليوم التفكير العقلاني لتجاوزه كي لا يخنق واقعنا السياسي . لا بد من أن نفكر في سلبيات وإيجابيات الديمقراطية التمثيلية في زمن الانتقال إلى الديمقراطية ونستحظر تجارب دول وشعوب عاشت مثل هذا الانتقال الصعب إلى الديمقراطية. لا بد أن نفكر في الأشكال المبتدعة للديمقراطية وفي مقدمتها الديمقراطية التشاركية بخلفية بناء اجماع وطني حول القضايا الكبرى التي تفتعل داخل مجتمعنا ولمواجهة التحديات والإكراهات والأزمات التي تتهددنا داخليا وخارجيا ولوضع أسس تعاقد متجدد مبني على المصالحة التارخية الشاملة وبهدف تأكيد المسار نحو الديمقراطية وتصحيح اختلالاته والالتفاف حول البرنامج الوطني والمشروع المجتمعي الموحد مضمونا ولا بأس بل من المفروض أن يكون هناك اختلاف وتنوع في تنزيله وتحقيق أهدافه .
إن ما يجب أن يستوقفنا اليوم هو موقف القصر اتجاه عجز الإستاذ عبد الإله بنكيران في تأسيس الحكومة . فلقد كان ملك البلاد وهو يتخذ القرار باعفائه من هذه المهمة وللخروج من هذا المأزق أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تأويل الدستور بما يساعد على حلحلة الوضع من دون الرجوع إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها أو اللجوء من جديد إلى هذه الانتخابات . فاختار الملك تأويل الدستور تأويلا ديموقراطيا ( بغظ النظر عن موقفنا وتقييمنا المختلف لهذا الدستور ) وحرِص على أن لا يبتعد عن المنهجية الديمقراطية وتفعيل منطوق الدستور الجديد عبر اختيار رئيس حكومة جديد من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد بالبرلمان في الانتخابات الأخيرة . وفي اعتقادي فإن حرص القصر على احترام الدستور رسالة تحمل في طياتها إشارتين في غاية من الأهمية لا بد من التقاطهما :
- الإشارة الأولى تبين اصرار ملك البلاد على احترام دستور البلاد في هذه النازلة ،
- والإشارة الثانية وتعني بالأساس قيادة حزب العدالة والتنمية وكل مناضليها ومناضلاتها وفيها تعبير عن نوايا القصر اتجاه حزب العدالة والتنمية وحرصه على أن يلعب هذا الحزب دوره مرتجى في المرحلة القادمة. أي أراد القصر أن يفنذ الإدعاءات القائلة بوجود ترتيب بمباركته لتهميش وابعاد هذا الحزب عن تدبير الشأن الحكومي . ولعل اسناد مهمة تشكيل الحكومة للسيد العثماني تأكيد على ما قلته بل حرص من القصر على وحدة الحزب وتماسكه . وأكيد أنه لو كانت هناك إرادة في عدم اشراك حزب العدالة والتنمية في الحكومة المقبلة أو كانت هناك نية في زرع الفوضى داخل هذا الحزب لتم اهتبال فرصة عجز عبد الإله بنكيران في تأسيس الحكومة ولاستغلت تلك الجملة غير المفيذة والمستفزة التي خرجت من فم قيادي من حزب العدالة والتنمية بأنه لن يكون بنعرفة حزب العدالة والتنمية أو لعيَّن الملك من هذا الحزب غير العثماني الذي يحظى بالثقة بين مناظليه ومناضلاته ويعد رفيقا لبنكيران وبها رحمه الله تعالى في رحلتهم الطويلة .
نحن اليوم إزاء فرصة جديدة للخروج من عنق الزجاجة لا يطلب فيها من أحد تغيير مبادئه ولا قناعاته وليس من المفروض فيها ارغام أي كان على تحالفات لا يرتضيها لنفسه أو لا يريدها . مرحلة تتطلب الذكاء الضروري لتدبير المرحلة واستحقاقاتها ومواجهة تحدياتها واكراهاتها وأزماتها. مرحلة تتطلب اعمال الفكر والرأي والانتصار للعقل والتفكير بمنطق الاستعاب والمصالحة ومنطق البحث عن ما يجمع ومنطق الشراكة .