وثقافة البيظان- البيظان اسم يطلق على الأشخاص الذين يتكلمون العربية الحسانية (كلام حسان) من العرب والأمازيغ البيض ومن لحق بهم من السود في موريتانيا والمغرب- هي تلك الثقافة الغنية بالأنماط التعبيرية الشفاهية المتنوعة.
وتتميز هذه الثقافة، حسب الباحثين، بقلة الكتابة ووسائلها في مجتمع الصحراء فتصبح التعابير الشفهية فيها هي وسيلة التواصل الناقلة للتجارب والحافظة للذاكرة الجماعية التي تترسخ وتتجذر من خلال جلسات السمر التي تميز ليل الصحراء.
ويرى الباحث الحافظ الزبور، المنحدر من الصحراء المغربية، في إحدى كتاباته، أن بني حسان أبدعوا في كل ألوان الفن من غناء وشعر ونثر بسليقة رائعة تميط اللثام عن قبائل مسكونة بسحر الصحراء ومجبولة على الكلام الموزون والمقفى.
ويستدل الباحث على سحر هذه الثقافة وتنوعها وجماليتها وابداعها ورقتها بفتنة “الهول” وشيوعه المهيب بين كل القبائل الصحراوية وكأنه ترياق مداوي للعزلة والوحدة ووحشة الصحراء، مشيرا إلى أن “الهول” (طرب موريتاني مغربي)، هو غناء يصاحبه عزف موسيقي يصدر من حناجر صداحة كأنها مزامير روحانية تطفئ هيجان الغضب وتريح سكون النفس.
وللتراث الثقافي الحساني بالمغرب وموريتانيا معالم وصروح تجعل من التعبير غير المادي، من فولكلور وأغان وموسيقى شعبية وحكايات ومعارف تقليدية متوارثة عبر الأجيال والحقب والعصور، نبض الحياة، ومن التراث المادي، من أوان وحلي وملابس ووثائق وغيرها، تجسيد لهوية المجتمع البيظاني.
والثقافة الحسانية تمثل عنصر وحدة وتقارب بين الشعوب التي تنتمي للمجتمع الحساني الممتد على مسافات زمانية ومكانية متباعدة (من وسط المغرب إلى شمال السنغال)، حيث تضم كما كبيرا من الأمثال والحكم التي تبرز ارتباط الانسان “البيظاني” بالأرض وانعكاس البيئة الاجتماعية والثقافية والطبيعية على ثنايا الحكم والأمثال الحسانية المعبرة عن استنتاجات وتجارب الأجيال السالفة.
وفضلا عن الجوانب الأدبية، يرى الحافظ، أن الثقافة الحسانية تحمل تراثا علميا قيما خاصة في علوم الفلك تتحدد فيه أسماء النجوم ومواقعها والمطالع والمنازل الفلكية ودلالتها في فهم التقلبات الجوية والتي تشكل جزءا مهما من اهتمامات إنسان الصحراء.
والقاموس المناخي الحساني يحمل الكثير من مسميات وتفاصيل المظاهر الجوية المتنوعة التي تتحكم في طقس الصحراء وتقلبات أحوالها الجوية، حيث يسمي الرياح المحملة بزوابع رملية ب”زعفيكة” والرياح المحملة بغبار مظلم داكن ب”كتمة” والرياح المحملة بأتربة ب”لعجاج”…
كما تتسع الثقافة الحسانية للعديد من المصطلحات والمفاهيم الدقيقة في علوم الجغرافيا والجيولوجيا في جانبها الجيومورفولوجي (التضاريسي)، حيث تحمل تصنيفا تفصيليا لجميع المظاهر التضاريسية الصحراوية مثل “الكارة” و “الخشم” و “النبكة” و “لعظم” … وهي كلها أوصاف لمرتفعات يفهم منها الحساني معنى دقيقا من حيث الشكل والحجم وحتى المواد المكونة لها أحيانا.
وفي مجال الطب، ينهل القاموس الحساني من تراث غني بأسماء الوصفات الطبية وتفاصيل لغوية ووصفية للأمراض ومسبباتها وأعراضها ووسائل علاجها المستنبطة من مكونات نباتية وحيوانية ومعدنية تنتمي إلى البيئة المحلية.
كما أن القاموس الطبي الحساني ناتج عن تمازج ثقافي ومعرفي للمجموعات السكانية بالمنطقة، مشيرا إلى أن التمازج بين كل هذه الخبرات لم ينعكس فقط على استعمالات الأدوية، بل على تسمياتها إذ أن ثلاث أرباع من أسماء النباتات الطبية التي يستخدمها البيظان من أصل عربي والربع الباقي من أصل بربري.
ولا يكفي أن يفهم الشخص المفردة الحسانية بل يحتاج إلى فهم السياق الذي تتداول فيه، لما للتعابير الحسانية من خصوصية تجعل فهمها واستيعابها والقدرة على استعمالها فن يصعب بلوغه على الشخص غير “البيظاني”.
والتعبير الحساني غني ومتنوع ويتصف باستعمال وسائل عديدة لإغناء النص بالصور والأوان والتراكيب اللغوية المعبرة عن العواطف والمشاعر، ففيه أساليب القسم وأدوات الشرط وصيغ الاستفهام والإشارة والتصغير والتفخيم والتعجب والحث والإغراء والتحذير والدعاء والتفضيل والمقارنة وغيرها….
وخلص الباحث الحافظ إلى أنه رغم وحدة الثقافة الحسانية وتماثلها في الجانب اللغوي، الذي يميزها على اتساع مجالها الجغرافي، إلا أنها قد تختلف اختلافا طفيفا في بعض مناطق انتشارها، وذلك لوجود عوامل تأثير متباينة عبر الامتداد الجغرافي ولاختلاف مكونات الجوار من منطقة إلى أخرى.
ولئن كانت الثقافة الحسانية مشتركا ثقافيا بين المغرب وموريتانيا، فهي تساهم في تقارب الشعبين وتدفعهما إلى خلق علاقات أسرية وتحقيق مزيد من التعاون في المجالات الاقتصادية في أفق تحقيق اندماج وتكامل اقتصادي بين البلدين ضمن الاتحاد المغاربي.