في أبريل عام 2013أثار تسرب أنباء حول اعتزام الولايات المتحدة الأمريكية تقديم مسودة مشروع قرار يقضي بتوسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة بالصحراء لتشمل مراقبة وحماية حقوق الإنسان، جدلا واسعا في الأوساط السياسية في البلاد، وتدخل العاهل المغربي شخصيا من خلال مكالمة مع الرئيس باراك أوباما، لإيقاف المقترح الذي كان سيعرف طريقه إلى دواليب الأمم المتحدة.. تلك كانت الدقة الأولى من الحليف الاستراتيجي الذي نتغنى دوما، بوحي من عواطفنا الجياشة، بكون المغرب أول بلد اعترف باستقلاله.
في بداية الشهر الجاري، أصدرت المحكمة الأوربية حكما قاسيا ضد اتفاقية الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوربي، حيث دعت المحكمة في قرارها إلى ضمان عدم تنفيذ بنود الاتفاقية في الصحراء "الغربية"، وجاء في الحكم القضائي الصادر عن المحكمة الأوروبية: “أن القرار 2012/497/إ.أ للمجلس (الأوروبي) المؤرخ في 8 مارس 2012 فيما يخص إبرام الاتفاق في شكل تبادل للرسائل بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المغربية المتعلق بإجراءات التحرير المتبادل في مجال المنتجات الفلاحية والمواد الفلاحية المحولة والأسماك ومواد الصيد البحري بدلا عن البروتوكولات رقم 1, 2 و 3 وملحقاتها وتعديلات الاتفاق الأورو- متوسطي التي ترسي شراكة بين المجموعة الأوروبية وبلدانها الأعضاء من جهة والمملكة المغربية من جهة أخرى، قد تم إلغاؤه لكونه يقر تطبيق هذا الاتفاق في الصحراء الغربية”.
كانت تلك هي الدقة الثانية.. التي جعلتنا في وضع من "أساء سمعاً فأساء إجابة"..
ولم يكتمل فرحنا بمصادقة الكونغرس الأمريكي على ميزانية 2016، والتي تؤكد على أن الدعم الأمريكي المالي للمغرب، يشمل كافة التراب الوطني بما فيه الأقاليم الجنوبية، حتى استفقنا على صفعة أخرى، بتصويت البرلمان الأوروبي، المنعقد يوم الخميس الماضي بستراسبورغ، لصالح إجراء تعديلات على تقرير حول حقوق الإنسان بالأقاليم الجنوبية، يروم توسيع مهام البعثة الأممية “المينورسو” لتشمل مراقبة حقوق الإنسان. .. وكانت تلك دقة أخرى غير متوقعة من حلفاء وضعنا كل بيضنا في سلتهم.
بتأمل القرارات الأخيرة، للاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، نقف على انعطاف جوهري في العلاقات الدولية، ينعكس بشكل سلبي على وحدتنا الترابية، لقد أصبح المقياس الأساسي هو ملف حقوق الإنسان من جهة وتوزيع الثروات من جهة أخرى، وهو التيرمومتر المعتمد في النزاعات الإقليمية، وذو الأولوية في الاستخدام من طرف اللاعبين الكبار في رقعة الشطرنج الدولية، وكلا الملفين سلاح ذو حدين، فقد لعبت الإدارة الأمريكية بالورقة الحقوقية إلى أبعد مدى لتفكيك امبراطورية الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، في الوقت الذي كانت تدعم فيه نظام بينوشي الدموي وديكتاتوريات الموز والعديد من الأنظمة العسكرية وتغتال فيه رموز الثورات والديمقراطيين في مناطق مختلفة من العالم..
من باب التكرار الممل، العودة للاستشهاد بما قاله تشرتشل، من كون الغرب "ليس له أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، وإنما له مصالح دائمة"، وأن لا تحرير بمساندة الغير كما يقول العروي، ف"الدقات" المتتالية يجب أن تدفعنا إلى أن نعيد النظر في الكثير من المسلمات في قضية وحدتنا الترابية وفي أسلوب تدبير الدولة لملف أصبح يدخل منعطفات مليئة بالالتباس والغموض، ثمة علامة استفهام كبرى فيما يرتبط بالجزائر يجب أن نطرح السؤال المركزي: لماذا سواء صعد ثمن البترول أو هبط إلى أرقام خيالية بما لذلك من انعكاسات اقتصادية على كل من المغرب والجزائر، في الغالب الأعم تنتصر علينا الدبلوماسية الجزائرية، ففي الوقت الذي اعتقدنا أن الجار الشرقي يعيش أزمة خانقة غير مسبوقة منذ ثورة الخبز في أكتوبر 1988، نفاجأ بهزائم دبلوماسية استثنائية، وممن نعتبرهم أكبر حلفائنا؟
وفي الوقت الذي شهد فيه الواقع الحقوقي تطورا ملفتا للانتباه داخل الأقاليم الجنوبية ذاتها، بشهادة الاتحاد الأوربي نفسه، وقياسا إلى الوضع القمعي داخل مخيمات تندوف، يمكن التساؤل عن السبب في الضغط على المملكة بالورقة الحقوقية؟
وإذا كانت مبادرة الملك محمد السادس في نونبر الماضي غداة زيارته للأقاليم الجنوبية، تبرز الوعي العميق بأن أزمات مجتمع الوفرة، ليست من جنس أزمات مجتمعات الخصاص، باعتبار هذه الأخيرة غير براغماتية، متطرفة وراديكالية، وميولاتها غير عقلانية ونزعاتها قابلة للتوظيف والتوجيه سواء من قوى منافسة في الداخل أو الخارج، لذلك جلب إلى الصحراء أكبر استثمار اقتصادي في تاريخ المنطقة، بمشاريع ضخمة بلغت قيمتها حوالي 16 مليار دولار.. لتساهم في نقل سكان المنطقة إلى مستوى اقتصادي واجتماعي أكثر استقرارا، وكانت تلك محاولة لدفع النخب الاقتصادية والرأسمال المحلي والوطني والأجنبي للاستثمار في الأقاليم الجنوبية باعتبارها البوابة الأساسية نحو السياسة الجديدة القاضية بالتوجه نحو العمق الإفريقي بما يملك من إمكانيات هائلة، وبتحويل رمال الصحراء إلى ذهب، يفيض خيره على أبنائنا بالأقاليم الجنوبية وينعكس خلق الثروة بالجنوب على باقي أطراف المملكة، وليثبت العاهل المغربي ما ورد في خطابه للأمة بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء في نونبر عام 2014 أن حجم ما يستثمر أقوى مما يجنى من ثروات المنطقة المتنازع عليها، حين ذكر أن المغرب ينفق 7 دراهم مقابل كل درهم يحصل عليه من الصحراء.. وليؤكد للفاعلين الكبار المعنيين بنزاع الصحراء أن المشاريع الضخمة بالجنوب هي جزء من خطة أكبر لتنمية البلد عبر كل أذرعه الاجتماعية وامتداداته الجغرافية.. وأن الجنوب لم يعد دوما لعنة الشر لدى الشعوب، بل هو مصدر الطاقة والثروة البشرية والمادية.
لكن أين العطب... لماذا لا زال الرأسمال المحلي والوطني جبانا ويستمر في التخندق في الدوائر الجغرافية التقليدية للمغرب، ولم يجاري رأس الدولة في الذهاب نحو أعماق الصحراء بذات الكثافة والسرعة المرجوتين؟ لدينا رأسمال جبان ونخب اقتصادية غير مغامرة، جزء منها انتهازي يريد اقتسام فوائد التنمية دون اقتسام أعبائها مع باقي الطبقات الاجتماعية.
إن داء العطب قديم، كما قال المولى عبد الحفيظ يوما، إذ أننا نجني اليوم ضرائب سياسة اقتصاد الريع وخلق نخب سياسية غير نزيهة، انتهازيتها بلا حدود، ولا تملك مصداقية، وإذا كان هذا الشأن عاما في كل أنحاء المملكة، فإن حساسية الطرف الجنوبي من المغرب يجعل للأمر مذاقا أكثر مرارة.
شكون يحد الباس..
على هامش استجواب أجريته نهاية عام 2002 مع السفيرة الأمريكية في الرباط، قالت لي مارغريت تيتويلر أن بلدكم لا يحسن تسويق أخباره الطيبة أو نقاطه الحسنة فيما تسبقه أخباره السيئة إلى أيدي الخصوم الذين يجيدون استعمالها"، لا يتعلق الأمر فقط بعطب الجهاز الدبلوماسي الذي اختار لسنوات التخندق في مواقع الدفاع فقط وبلغة خشبية لا تقنع أحدا، وزادت سياسة "دوز سربيسك" على خير لدى كل مسؤول في الجهاز الدبلوماسي في ترك الساحة فارغة لخصوم الوحدة الترابية، خاصة في دول تعاني من عقدة ذنب المرحلة الاستعمارية وفجائعها، والتي تعتبر الصحراء المغربية أحد تجلياتها، وكانت سياسة الجزائر دوما "معارك صغيرة وانتصارات كبيرة" كما يقول استراتيجيو الحرب..
هناك شبه حنين اليوم بين أطر وزارة الخارجية لمرحلة محمد بوستة كوزير للخارجية.. سياسي وطني، تجربة ثرية، حس دبلوماسي عالي وشخصية قوية قادرة على المبادرة وتحمل النتائج، أيننا اليوم من ذلك؟
لكن أين سؤال الصحراء اليوم في أجندة النخب السياسية، في الحكومة كما في المعارضة؟ في الأحزاب الممثلة في البرلمان أو في تلك التي تنشط خارج المؤسسات الرسمية؟ إن الأحزاب السياسية التقليدية من خلال خطابها العتيق وأساليبها في إنتاج النخب المحلية بالأقاليم الجنوبية أضحت جزء من المشكل لا جزء من الحل..
نحتاج إلى زلزال أكبر.. لنستطيع أن نوقف كل هذه الدقات ونوقف البأس !