هناك بعض تمثلات العدو تستقر في نفوس الجماهير أكثر من غيرها، لأنها تتوارث جيلا بعد جيل، بل تصبح جزء من ثقافة الجماهير، وبالخصوص إذا ما غذيت من طرف النخبة المثقة لبلد معين. فإذا أخذنا مثلا سر نجاح وشهرة القصيدة الشعرية للشاعر الروسي كورناي تشوكوفسكي Kornej Tschukowskij، المكتوبة عام 1916 خصيصا للأطفال: "التمساح"، وهي سارية المفعول إلى يومنا هذا، يحفظها الأطفال على ظهر قلب في الروض، فإننا نفهم أحد الميكانيزمات السيكو-ثقافية التي تتغدى منها وعليها صورة نمطية سلبية ما عن ثقافة أو شعب ما. وهي أكثر من قصيدة، بل حكاية مقفاة، يقول مطلعها: "كان هناك في القديم/تمساح/يمشي في الشارع،/مدخنا سجارة البابيروسي [سجارة روسية تفتل باليد]/ ويتكلم التركية/تمساح، تمساح، تمساحوفيتش".
تسرد قصة القصيدة كيف كان الصغار والكبار من الروس يستهزؤون من أنف وفم "التمساحوفيتش"، عندما عضه كلب في أنفه وكيف ابتلع "التمساحوفيتش" هذا الكلب بسرعة. ثم صادف شرطي هذا التمساح، مخاطبا إياه: "كيف تتجرأ على المشي هنا والتحدث بالتركية؟". وكان مصير الشرطي هو ابتلاع التمساح له ببذلته. بعدها صعد التمساح "الطرامواي"، زارعا الرعب في صفوف المسافرين، إلى أن التقى بطفلة تسمى فانيا فاسيلفتيكوف Wanja Wassiltschikow، هددته بسيف من خشب، وقفل راجعا خائفا هاربا بجلده. هذه البطلة الصغيرة في القصة حية إلى حد الآن في المخيلة الثقافية الشعبية الروسية. ولعل بوتين، في غمرة الأزمة الروسية التركية الحالية، يجسد بالنسبة للروس تلك البطلة، التي هزمت "التمساحوفيتش"، الذي لربما يحلم عن وعي أو دون وعي بإعادة إحياء قصة تجوله في شوارع روسيا، بسجارة في يده، قاضيا على كل من التقى به، بما في ذلك الشرطي.
بعد انحلال الإتحاد السوفياتي القديم، واستقلال الكثير من الجمهوريات، نامت هذه الصورة النمطية في لاشعور الروس، بل قد تكون عوضت بصورة لربما إيجابية وبداية علاقات تجارية مع هذه الجمهوريات، بل وكذا مع روسيا الحالية ذاتها. هاجر الكثير من الأتراك نحو روسيا قصد الدراسة والعمل، ومارسوا التجارة، وبالخصوص ما يخص الغذائية منها بفتح مطاعم ومحلات لبيع الخضر والفواكه القادمة من تركيا. وفتحت تركيا فنادقها لاستقبال ملايين السياح الروس. بل فتحت مدارس تركية في روسيا وكثر الزواج بين الأتراك والروسيات، وتركت قصيدة "التمساحوفيتش" المكان لأشعار شاعر روسي آخر سيرجاي يسينين Sergej Jessenin في حفلات القران التركي-الروسي: "لم أكن أبدا في البوسفور،/لا تسأليني عنه./رأيت في عينيك/بحرا أبيضا متقدا" (1924)
أكثر من هذا، عند افتتاح مسجد موسكو في شهر شتنبر الماضي (مسجد من ستة طوابق ضخمة وسبعة مصاعد كهربائية"، قال أردوغان متعجبا ومبهورا: "لا نتوفر بعد على مثل هذا المسجد في تركيا".
بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية، يتضح بأن الجانب الإيجابي الحديث العهد للعلاقة الروسية التركية كان ظاهريا فقط، لم يستطع القضاء النهائي على الجذور النفس-ثقافية المتوغلة في المخيلة الروسية وعلى تمثل التركي بخنجر يغرسه في ظهر الروسي.