في البدء خلقت الأوسمة كاستعارة يريد الوطن من خلالها أن يقول «شكراً»، وتريد الأمة بواسطتها أن تعبر عن فضيلة الاعتراف، وتريد الدولة عبرها أن تقابل عطاءات استثنائية بقليلٍ من الوفاء.
وبنسعيد آيت يدر، المقاوم والمناضل والمواطن، يستحق الشكر والاعتراف والوفاء.
دخل المُوَشَّحُ السياسة من الباب الكبير للوطن: مقاوماً ومؤسساً لجيش التحرير، ومثل جزءٍ كبير من مُجايليه الشباب، قادته خيبات ما بعد الاستقلال إلى المُعسكر التقدمي، دفاعاً عن روح الحركة الوطنية واستمرارا لحركة التحرير الشّعبية.. اختيار صعب ومُكلف كان من السهل أن يجني من ورائه صاحبنا حُكماً نافذاً بالإعدام في ذروة القمع الستيني العارم، ليجد نفسه بعد ذلك منفياً.
هناك خارج الوطن/الجغرافيا والأرض وفي قلب الوطن الفكرة والتاريخ، ومن داخل التباسات ومراجعات وتناقضات الحركة التقدمية، سيجد نفسه مؤسساً وقائداً لتيارٍ من تيارات اليسار الجديد، رُفقة جيلٍ جديد من الشباب وجيلٍ جديد من الأحلام.
معهُم، وبعد عودته بداية الثمانينات، سيتحمل مسؤولية قيادة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، كصيغة لما بعد الانتقال نحو الشرعية، وكمدرسةٍ رائدة في النضال الديمقراطي واليساري المتجدد، المسنود بطلائعية ثقافية وفكرية مِقدامة، وتجربة إعلامية مميزة، ونفسٍ قومي لافتٍ، وأذرعٍ مدنية ونسائية خلاقة.
حينها سيبصم بنسعيد آيت يدر، نائباً في البرلمان، على شجاعةٍ نادرةٍ ليطرح أسئلةً خارج سقف «المرحلة» والحدود المرسومة للانتداب الانتخابي، تم سينخرط بكل قوة في تجربة الكتلة الديمقراطية، قبل أن يعصف دستور 1996 بوحدة المنظمة، ليدخل مساراً آخر بحثاً عن يسار اشتراكي وموحد، قبل أن يجد نفسه، مع دينامية 20 فبراير 2011، مرافقاً لجيلٍ جديد من الشباب وجيلٍ جديد من الأحلام، حيث نذكر جيداً رسالته لهؤلاء الشباب الذين فتحوا -على حد قوله- «باب المغرب على مستقبل الكرامة»، والذين ساندهم بلا هوادة، باعتباره «الشيخ الذي لايزال يحلم بالأمل الجميل للشعب المغربي».
خلال كل هذه المحطات، وبرفقة هذه الأجيال الثلاثة الباحثة عن الحرية والديمقراطية، سيظل الرجل نزيهاً عفيفاً وفياً لمبادئه، واضحاً في اختياراته، غير قابلٍ للمساومة.
في صُورة اللقاء كثافة من الرُموز؛ بنسعيد آيت يدر بالبذلةٍ العصريةٍ والطربوش الوطني، لباسُ الحركة الوطنية وهي تُعيد اكتشاف الهوية المغربية داخل المساجد والأحياء المدينية، تحت صدمة الاستعمار وهيمنة الشّرق. الطربوش الذي لبسه محمد الخامس في الواقع وفي الأسطورة، قبل أن تُغيبه العلامات والتقاليد التي صنعها لنفسه مخزن ما بعد الاستقلال، ويَستبدله بالشاشية الشّهيرة.
الصُورة تُكثف كل دلالات الحدث: الملك والمُناضل وجهاً لوجه، وبينهما وبين ما يمثلهُ كل منهما؛ ذاكرة متقاطعة مليئة بالتوترات الحادة وسوء الفهم الطويل، ومُشحونة بالصراع والتوافقات واختلاف الرؤى. لكن بينهما -كذلك- كُل المُشترك الوطني.. وبينهما -في النهاية- مشاعر رَجُلين.
في الصورة كذلك رسالة لا تُخطئ عنوانها: يمكن للاحترام والتقدير من جهة، وللكرامة الإنسانية من جهة أخرى، أن يعنيا أمراً واحداً.
السي محمد بنسعيد.. دُمت شامخاً.