وليست هذه المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تندلع فيها فضائح تجسس أميركا على حلفائها، ففي عام 2013، كشفت تسريبات عن تجسس الاستخبارات الأميركية على هاتف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل. وسبق أن كشفت وثائق سرية عن تجسس المخابرات الأميركية على رؤساء دول حليفة أو صديقة أو شريكة، مثل إسبانيا وبريطانيا والمكسيك والبرازيل وتركيا. ولم يستثن التجسس الأميركي حتى دول مثل البهاما وأفغانستان وأندونيسيا وسنغافورة، فقد أكدت وثائق كشف عنها عميل المخابرات الأميركية السابق، إدوارد سنودن، أن الولايات المتحدة تملك أنظمة معلوماتية متطورة، تمكّنها من التجسس على أجزاء كبيرة من شبكات الاتصالات الحديثة في كل دول العالم تقريبا. وطبقا للوثائق نفسها، فإن المخابرات الأميركية تجسست على المحادثات الهاتفية لخمسة وثلاثين من زعماء العالم، ناهيك طبعا عن الحديث عن تجسسها على ملايين المواطنين في العالم، بل وعلى مواطنيها أنفسهم.
كانت واشنطن تبرر عمليات تجسسها على العالم بحربها الكونية ضد الإرهاب، كما أن عمليات التجسس الأميركي ليست جديدة، فقد ازدهرت في زمن الحرب الباردة، لكن هذه الفضائح المتتالية تكشف عن تجاوز نطاق مبررات هذه الحرب، بل وحتى منطق التجسس الذي تلجأ إليه جميع الدول، وتحول الأمر إلى عملية تلصص ممنهجة ضد قادة ورؤساء دول، ومنهم أقرب الحلفاء والأصدقاء والشركاء، فلا شيء يعلو فوق مصلحة أميركا، ولا وجود لاعتبارات أخلاقية أو قيمية أو مبدئية، تؤطر عمل المخابرات الأميركية.
لن تؤثر تداعيات قضية التجسس الأميركي على العلاقات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين على طبيعة هذه العلاقات التي يحكمها الجانب المصلحي، بالدرجة الأولى، فالدول الأوروبية الغربية مازالت في حاجة إلى المظلة الأميركية لحمايتها من الخطر الروسي المحدق بها، على الرغم من انتهاء الحرب الباردة التي لم تنته إلا لتظهر من جديد، على شكل بؤر توتر تجعل المواجهة مفتوحة بين الغرب وروسيا، في أكثر من منطقة من إيران مروراً بسورية، وصولا إلى أوكرانيا في قلب أوروبا. فما ستؤدي إليه هذه الفضائح هو زعزعة عامل الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها، ومسلسل إعادة بناء الثقة سيتطلب سنوات طويلة، فما تم الكشف عنه ربما لا يمثل سوى الجزء البارز من جبل الثلج، وما ستكشف عنه الأيام المقبلة قد يحمل فضائح أكبر. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح يتعلق بالغرض من عمليات التجسس هذه على الحلفاء، عن ماذا تبحث المخابرات الأميركية لدى حلفائها من معلومات المفترض أن هناك اتفاقيات مبرمة بينهما لتبادلها والتعاون بشأنها، إن لم يكن الأمر يتعلق بمجرد عملية "تلصص" دنيء على خصوصيات الأشخاص، بمن فيهم رؤساء الدول؟
لكن، يبقى ما هو مهم في فضائح التجسس هذه أنها كشفت أن منطق المصالح هو الذي يحكم العلاقات الدولية، ولا وجود لمبادئ أو قيم، وأن اللغة الدبلوماسية المتبادلة، والمعلن للاستهلاك الإعلامي عنها، تخفي وراء عباراتها النمطية الانحطاط الأخلاقي والسلوكات المنافية للقانون التي تحكم علاقات الدول، بما فيها تلك الحليفة والصديقة.
كما أنها تنبئنا بأن حروب المستقبل ستكون حروب معلومات، وأن أجهزة التجسس وتقنياته ستكون أسلحة هذه الحروب القذرة، وكلما تطورت تقنيات التجسس، وانحطت سلوكات القائمين عليه، يصبح مفهوم الحريات أكثر نسبيةً، عندما يتم التلصص على الحريات والخصوصيات الفردية للأشخاص.
الأمر الآخر المهم الذي كشفت عنه هذه الفضائح أن عقيدة التجسس لم يعد يحكمها الهاجس السياسي، وإنما تم توجيهها إلى الجانب الاقتصادي، لأن التنافس الاقتصادي والتجاري والمالي سيظل قائماً، حتى بين الحلفاء والشركاء، وستكون حروب المستقبل الباردة اقتصادية بالدرجة الأولى، وستندلع بين الأصدقاء قبل الأعداء.
وأخيراً، تكشف هذه الفضائح عن استمرار عقلية الهيمنة الأميركية على العالم، وهي التي تدفع النظام الأميركي إلى ارتكاب ممارسات غير أخلاقية والإتيان بسلوكات لا قانونية، خليقة بدول فاشية، ما يتناقض تماما مع الصورة التي تريد أن تروجها أميركا عن نفسها رائدة للعالم الحر، ما يطرح، اليوم، سؤالاً جوهرياً حول الفارق الكبير بين المثل والقيم التي تدعي الولايات المتحدة أنها تدافع عنها، والإقدام على مثل هذه السلوكات الدنيئة. ويتعلق الموضوع بصورة النموذج التي تعرضت للخدش، ويصعب إعادة ترميمها مجددا.
خلاصة القول، إذا كانت أميركا تتجسس على أصدقائها وحلفائها وشركائها من الدول الغربية، وتتلصص على مكالمات رؤساء تلك الدول، فما بالك عن تجسسها على باقي دول العالم، بما فيها الدول العربية، مع المفارقة أن أنظمة عربية قد لا تحتاج أميركا إلى التجسس عليها، لأنها هي من نصبتها للتجسس لها على شعوبها!