سنتان بعد ذلك، ستعيد قضية الاحتجاج الشبابي الواسع ضد قرار العفو على دانييل كالفان، مغتصب الأطفال الإسباني الجنسية، بعث السؤال ما إذا كان قوس "مغرب 20 فبراير" قد أُغلق، خصوصاً أن يوميات هذه القضية ستُؤشر، في العمق، على نوعية من التحولات، باتت تخترق بنية الفعل السياسي، وأشكال بناء القضايا العامة، والمدى الجديد الذي أصبحت تصل إليه مطالب "الفاعلين الجدد"، بعيداً عن الحدود المرسومة وغير المكتوبة، المُلتزم بها، عادةً، فاعلو المؤسسات.
وإذا كان مؤكداً أن دينامية فبراير المغربي استندت، في صيرورتها، على "المفاجأة الاستراتيجية" لحدث الربيع العربي في موجته الأولى، فإنه من غير الممكن، في لحظة تحليل الحدث، إقصاء عناصر البيئة الوطنية المُستقبلة، والتي سهلت ولادة الهَبّة المغربية، ليس حدثاً عابراً ضمن يوميات السياسة المغربية، ولا مجرَد صدى بعيد للمحيط الإقليمي. ولكن، عنواناً على تحولات سوسيولوجية نافذة، مسّت علائق الشباب بالسياسة، ووسائل التأطير، وطرائق الاحتجاج.
القصد من هذا التذكير السريع هو المجازفة بالقول إن دينامية 20 فبراير، في تمظهراتها الحركية، قد تؤول إلى التحلل أو حتى الموت، لكن هذا لا يعني أن بالضرورة موت فكرة "الاحتجاج السياسي" بدعواتٍ من مُواطنين ومن أفراد، تيسر لهم وسائط التواصل الجديدة تأسيس شبكات وتحالفات، وبناء قضايا مهيكلة للرأي العام.
لم يكن الاحتجاج على المُغتصب الإسباني حالةً معزولة لعودة روح وفكرة "20 فبراير" للتأثير في الأحداث، فالحاصل أن غالبية التعديلات الحكومية التي عرفها فريق عبد الإله بنكيران لم تكن وراءها لا الأحزاب السياسية، ولا المعارضة البرلمانية، ولا الصحافة التقليدية، بقدر ما كان موقف "الرأي العام الجديد" حاسماً في تفاعلاتها.
قد يكون مفيداً، هنا، أن نتحدث عما تسميه أدبيات أكاديمية كثيرة "ديمقراطية الرأي"، توصيفاً لحالة من القدرة التعبوية التي يُحدثها تقاطع مواقف مواطنين/أفراد، داخل الساحة العمومية، ومقابلاً لـ "ديمقراطية المؤسسات"، حيث الاختلافات تكمن في نوعية الفاعلين، وفي طبيعة استراتيجيات الثأثير، وفي مفهوم الزمن السياسي نفسه.
ويرتبط تصاعد أهمية "ديمقراطية الرأي"، بالمُخالفة، بالعطب الذي تعانيه آليات الوساطة الحزبية والنقابية والمدنية في البنيات والوظائف، فالأحزاب لم تلتقط رسائل "20 فبراير"، التي دعتها، عملياً، إلى تغيير تعريفها العمل السياسي من كونه مجرد تدبير للعلاقة مع الدولة إلى تدبير العلاقة مع المجتمع. لذلك، ظلت، في غالبيتها، وفية لدوْرين لا ثالت لهما: انتظار الإشارات من أعلى، أو تثمين القرارات الواردة من أعلى، ما يجعلها، على الأرجح، في المعادلة السياسية الجديدة، عبئاً على الدولة، عوض أن تكون مُغذيةً طبيعية لشرعية هذه الأخيرة.
وفي الحقيقة، كل هذا التوصيف يمكن اقتصاده، بمجرد الاكتفاء باستعادة "الذهول الكاريكاتوري" لقيادات عديدة في الأحزاب، أمام كل اللحظات الكبرى لبروز "ديمقراطية الرأي".
ربما، يمكن اليوم قراءة تفاعلات الساحة السياسية، بعد رصد "انحسارها غير المتوقع"، في التوقيت والسياق، من خلال مأزق مزدوج، مأزق مشروع التأويل البرلماني الناتج عن هشاشة "ديمقراطية المؤسسات"، وعطب الفاعلين الحزبيين والمؤسساتيين، ثم مأزق مشروع العودة لملكية تنفيذية، الناتج عن تصاعد "ديمقراطية الرأي" المحمولة على أكتاف جيلٍ تبدو عقيدته السياسية هي المساءلة. وهو ما يبدو أقرب إلى مفارقة، تجسدها صورة مؤسسة ملكية، تدفعها هشاشة "ديمقراطية الأحزاب" إلى النزوع نحو ملء فراغات باقي الفاعلين التنفيذيين، وعندما تقدم على ذلك تكون قد خاطرت بمواجهة مباشرة لـ "ديمقراطية الرأي".
ولأن المؤسسة الملكية المغربية فاعلٌ استراتيجي، ترسخت لديه، بفعل التاريخ، حاسةُ الاستباق، فقد أصبحت المؤسسة الأكثر حساسيةً في التفاعل مع عوالم "ديمقراطية الرأي"، كما اتضح، خصوصاً، بطريقةٍ مشهديةٍ في حالات إعفاء وزراء تحولوا في سياقاتٍ مختلفةٍ إلى مواضيع أثيرةٍ لهذا الرأي العام الجديد.
ضمن هذا السياق وحده، يمكن قراءة وُلوج عبد الإله بنكيران، بوصفه رئيس حزب العدالة والتنمية، إلى "فيسبوك" وتصميمه صفحةً خاصةً، سُرعان ما نالت من إدارة هذه الشبكة "الشارة الزرقاء"، المُخصصة للرواد الاستثنائيين لهذا الفضاء الأزرق المثير.
هو بنكيران نفسه الذي سبق له أن تندّر بسخريةٍ كثيرة على هذا "الفيسبوك العجيب"، والذي سبق له أن نحتَ مفهوم "سُكان فيسبوك"، في وصفه رواد شبكة التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية في المغرب، هو نفسه ينقاد وراء مُستشاريه و"خبراء" تنظيمه، ليُجرب الانتقال من "الفطرة" إلى "التقنية"، بحثاً عن حياةٍ جديدة لحالة تواصلية خاصةْ، بَصَمَتْ التاريخ الحديث للسياسة المغربية.