الإشكالية هنا هي كيف نُدبّر هذه التقاطبات الإيديولوجية، ذات العلاقة بسؤال الحداثة، في ارتباط بالاصطفافات السياسية ذات العلاقة بسؤال الديمقراطية.
بعبارة أخرى؛ أي من السؤالين، إذن، يجب أن يتصدر أولوية اهتمام الفاعلين، في الحالة المغربية؟
كثيرون يعتبرون أم المعارك اليوم؛ توجد في جبهة المجتمع، وليس على مستوى الدولة، ولذلك، فالصراع المركزي اليوم، يجب أن يتحول إلى صراعٍ إيديولوجي بين الحداثيين والمحافظين.
أنصار هذه الأطروحة؛ ليسوا كتلة منسجمة، إذ يوجد من بينهم الليبراليون المتشبعون بفكرة الفردانية، واليساريون المتهيبون من سطوة الأصولية، لكن هناك، كذلك، معهم ممثلو السلطوية الذين يرفعون بانتقائية شعار الحداثة لتبخيس الاقتراع العام، ولتتفيه السياسة، ولمحاربة الديمقراطية في نهاية التحليل.
إن تأجيل سؤال الديمقراطية بدعوى أولوية حسم القضايا المجتمعية الخلافية، لن يعني في النهاية سوى التضحية بالديمقراطية بمبرر الانجرار وراء «وهم» الحداثة، ولن يعني في نهاية التحليل سوى عودة السلطوية التي تعتبر موضوعيا من الناحية الثقافية والاجتماعية نقيضاً لكل من «الديمقراطية» و»الحداثة».
الرهان على البنية العميقة للدولة المغربية لبناء تحالف تاريخي لبناء الحداثة، يبدو مثيرا للأسئلة، فهذه البنية لا تتوفر طبقيا وسوسيولوجيا على مشروع إيديولوجي واضح، عوضا عن ذلك، فهي تقوم بوظيفة الضبط القيمي، لذلك رفعت شعار المحافظة الدينية ضد اليسار في السبعينيات، وترفع اليوم، شعار: الحداثة ضد الإسلاميين.
إن لعبة الحداثة ضد الديمقراطية، تبقى صناعة سلطوية بامتياز، ولدى الديمقراطيين اليوم من ليبراليين وإسلاميين ويساريين، ما يكفي من الذاكرة لاستعادة مشاريع التجارب السياسية الفاشلة التي حوربت فيها الديمقراطية والتعددية والحزبية، بدعوى مركزية السلطة، وأولوية الدولة، وطلائعية النخبة، في قيادة التحول التحديثي، وهي تجارب فشلت في الديمقراطية، كما فشلت في تحديث المجتمعات.
إن الوعي بمخاطر تدبير سؤالي الديمقراطية والحداثة، لا يعني بالضرورة أن تُدخِل القوى التقدمية مشروعها التحديثي المجتمعي والثقافي في كُمونٍ تكتيكي، بل هي على العكس من ذلك، مُطالبة باستعادة المبادرة الثقافية وبمرافقة التحولات المجتمعية في اتجاه دعم المواطنة والحرية، وهي بكلمة تبدو خارجة من المعجم القديم، مدعوة إلى خوض الصراع الإيديولوجي في واجهاته الأساسية، لكن على أساس ألا يصبح هذا الصراع محددا لبوصلة تدبير الحقل السياسي الذي لا تبدو اليوم، حلقته المركزية في هذا المرحلة مطابقة للتوتر الهوياتي، بأشكاله المتعددة: محافظون /حداثيون؛ إسلاميون /علمانيون..
يُخطئ جزء من اليسار عندما يُدبر الصراع السياسي مع الإسلاميين بمنطق الإيديولوجيا، وهو الجزء نفسه الذي لا يبدو مهتما، تماما، بالمشروع الثقافي والفكري والإيديولوجي، والمفارقة أنه كثيرا ما يدبر الصراع الإيديولوجي مع الإسلاميين بمنطق السياسة والتسويات!
إن التقدم خطوات صغيرة في الديمقراطية، يعني تسجيل انتصارات مؤكدة في المسار المعقد للحداثة، والمؤكد، كذلك، أن تملك التحولات السياسية والديمقراطية يقتضي إسنادها ثقافيا وفكريا، حتى لا تظل أسيرة الإجراءات والمساطر وحبيسة للمستويات الفوقية للسياسة، وهنا يمكن أن تتحالف الديمقراطية والحداثة لإنجاز التحولات التاريخية المرجوة، ويمكن للإسلاميين والعلمانيين الانتقال من الديمقراطية إلى الحداثة، عوض الرهان على الأكذوبة الكبرى السلطوية الداعية إلى الانتقال من الحداثة إلى الديمقراطية.