تشكل فلسطين قضية أولى عند المغاربة بمختلف شرائحهم، ونقطة اتفاق عند الجميع، وحتى حين اختلفت أطيافهم السياسية وأيديولوجياتهم، فكان الجميع ينزل إلى الشارع ويضع يداً بيد كلما تعرضت فلسطين وشعبها لسوء، وبالأمس القريب سطر العشرات من مبدعي المغرب كتاباً بعنوان عنوان "فلسطين.. ذاكرة مغربية".
هذا الارتباط الوطيد غير المشروط بأرض الميعاد (فلسطين) لدى المغاربة قديم جداً، ليس وليد اليوم، حيث إنهم كانوا يرون أن تمام حجهم لا يتم إلا بزيارة مدينة القدس، والتي بقي فيها كثير من المغاربة، وكونوا هناك حياً أخذ اسم "حي المغاربة" (البلدة القديمة بالقدس)، وبقي مكوناً من مكونات تاريخ المدينة المقدسة.
وقد لبى المغاربة استصراخ صلاح الدين الأيوبي (532 هـ / 1138م وحتى 589 هـ/ 1193 م)، من أجل تحرير القدس، وهو أمر مسطور في كتب التاريخ. هذا الارتباط الوجداني بالقدس وفلسطين عامة لم يتوقف يوما، فكل جرح يصيب فلسطين في الشرق يتألم له المغاربة في الغرب الإسلامي، ويلهج باسمها الصغير والكبير حتى أضحت فلسطين "ذاكرة مغربية".
وبمناسبة حلول فلسطين ضيف شرف في الدورة الواحدة والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب في مدينة الدار البيضاء شمالي المغرب، بين يومي 13 و22 فبراير الجاري، أصدرت وزارة الثقافة المغربية كتاباً بعنوان عنوان: " فلسطين.. ذاكرة مغربية". الكتاب ذو اللون الرمادي، يقع في 120 صفحة من الحجم الكبير، ويضم 12 صورة بالأبيض والأسود للقدس، فيما اتخذت إحدى زوايا غلافه ألوان العلم الفلسطيني (الأبيض، الأخضر، الأحمر، الأسود).
في مقدمة الكتاب الذي يُقدم بالمجان، يكتب وزير الثقافة المغربي، محمد الأمين الصبيحي: "ارتأت وزارة الثقافة أن تجعل من حدث استقبال دولة فلسطين كضيف شرف ثقافي، لحظة جوهرية للوقوف عند المعاني الواقعية، والحالات الإبداعية والفنية التي حركها، ولا يزال يحركها، اسم فلسطين لدى نخبة من هؤلاء الفاعلين".
الوزارة استكتبت عدداً كبيراً من الأسماء البارزة للمساهمة بشهادات مركزة حول فلسطين كأرض وقضية وثقافة وذاكرة حية ومستمرة، كل من موقعه الفكري أو الإبداعي أو الصحفي أو النضالي. وبين دفتيه يضم الكتاب ذو اللون الرمادي، 79 شهادة تحدث فيها كل مشارك انطلاقاً من خلفيته سواء الإبداعية أو الإعلامية أو النضالية، وانتظمت هذه الشهادات في خيط ناظم واحد وهو هذا الحب الجامح والقوي لفلسطين.
من هذه الشهادات على سبيل التمثيل لا الحصر، نقرأ في شهادة المفكر كمال عبد اللطيف الذي يقول: " يصعب الإحاطة بمختلف مظاهر وتجليات المسألة الفلسطينية في الثقافة المغربية، فقد كانت منذ بدايتها في نهاية النصف الأول من القرن الماضي 1948، عنواناً كبيراً، وقضية مركزية في المشهد المغربي، وفي صور التفاعل المعبر عنها في فكر وممارسة طلائع الوطنيين المغاربة، ما يكشف أواصر الحس التضامني مع القضية في تاريخ المغرب المعاصر"، وفق مراسل الأناضول.
ويضيف: "أصبح للمسألة الفلسطينية حضور إبداعي يضاهي في قوته كثيراً من مظاهر حضورها السياسي والتاريخي، نتبين ذلك في الآثار الثقافية والفنية، التي احتضنتها الثقافة المغربية بكثير من التفاعل الوجداني المبدع...تستحضر الثقافة المغربية معارك الشعب الفلسطيني مع إسرائيل ومن يقف وراء مشروعها الاستطاني.. ولو شئنا أن نرسم للمسألة الفلسطينية صورة مختزلة في الثقافة المغربية، لقلنا إنها قضية وطن، وإن مسارها النضالي يعكس روحا مقاومة، كما يعكس كثيرا من الانكسارات، ويضعنا في النهاية أمام أفعال في المقاومة أسطورية...".
الكاتب والبرلماني السابق عن حزب الاستقلال، عبد الكريم غلاب، كتب في شهادة له بعنوان "فلسطين.. هذه ليست نهايتك " : " احتلت إسرائيل جزءا من فلسطين، وأسست على أرضه الدولة الإسرائيلية اليهودية في ظروف عالمية كانت مواتية للانتقام من تصرفات النظام النازي الهوجاء، وذلك بأسلوبين: أولهما: الحرب والسلام والهجوم الذي لا يرحم في نوع من سكوت الرأي العالمي بل وتأييد في أغلب الأحيان، وثانيهما: الإعلام، والدعاية، وغزو الأفكار عن طريق وسائل الإعلام خاصة الساذج منها بين الشعوب الأوروبية والأمريكية.
وكان الإعلام قائماً على أسس جديدة من المال وتملق العواطف والنزعات الدينية واستدرار العطف والتأييد الأعمى، وقد ظلت إسرائيل تستعمل هذين الأسلوبين منذ الاحتلال 1947، واستطاعت بذلك أن تحصل على آخر إنتاج من السلاح بتبرع متواصل خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية".
أما الكاتب والمناضل عبد الغني أبو العزم، فكتب تحت عنوان " ذاكرة فلسطين، ذاكرة الهوية الصلبة، ذاكرة التاريخ" : " ذاكرة فلسطين، ذاكرة الدم المهرق في السهول والهضاب والتلال والقرى والمدن، والبساتين، برتقالة، وزيتونة ترتل تراتيل مذابح/ مجازر، حيفا، ويافا، والعباسية، والخصاص، وصفد، وباب العامود، والقدس، والشيخ بريك، ويازور، ودير ياسين، وبيت داراس، والرملة، وقالونيا، وخانيونس، والحرم الإبراهيمي، وكفر قاس، وصبرا وشاتيلا، وغزة المنبعثة دوماً من بين الأنقاض والتدمير". ويضيف: " فلسطين الذاكرة، ذاكرة فلسطين، تأبى النسيان، تستعصي على الإنمحاء أو الذوبان، صخرة في قلب الوشم الأبدي الراسخ في الجسد، والممتد في الشريان، ذاكرة النبض الخافق أبداً.. ذاكرة فلسطين، ذاكرة الفدائي والبطولات، ذاكرة العدوان الذي لا حدود لمعاييره... ذاكرة فلسطين، ذاكرة مستميتة صلبة، وسط الاعصار والدمار والخراب.."
أما الكاتبة خناتة بنونة، والتي ارتبطت بفلسطين بشكل وجودي لدرجة خصصت مالها و ما حصلت عليه من جوائز نصرة للقضية الفلسطينية والفلسطينيين، وهي الآن تبني مدرسة في غزة من مالها الخاص، تكتب صاحبة رواية "النار والاختيار" والتي كانت قد كتبتها عن القضية وبيعت آنذاك في المزاد في العالم، وقدمته هدية لمنظمة التحرير الفلسطينية. تكتب بنونة في شهادتها المعنونة بـ" ألم وأمل": "إنها فلسطين تمتد على كل المسافات والجغرافية والحضارية والفكرية والذاتية، سواء في العلاقة مع القضايا الكبرى أو التفاصيل الصغرى لكل ما هو فكري أو اجتماعي أو سياسي أو فني أو يومي أو زمني". وتضيف: " ويشهد الله أنني لم آخذ درهما واحداً عن كتابي "النار والاختيار"، أو عن المكافأة المالية لجائزة القدس التي حصلت عليها في سنة 2013، وأهديتها لوجه الله تعالى لبيت مال القدس بالمغرب (منبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، ويرأسه العاهل المغربي الملك محمد السادس)، ، بل لم أتوقف إطلاقاً وإلى الآن عن النضال الفعلي مادياً وفكرياً منذ ذلك الكتاب في فلسطين أولاً وفي جميع البؤر التي تعرف اضطهاداً دينياً أو فكرياً.. ولا يظن أحد أنني ثرية بل فعلت ذلك من كل إرثي، سواء أكان ذهباً، أو مجوهرات، أو عقار، إذ لم أعد أملك الآن إلا البيت الذي أسكنه".
وبمناسبة حضور فلسطين ضيفة شرف في معرض الكتاب، أعادت وزارة الثقافة المغربية إصدار العدد الأول من جريدة "فلسطين"، الذي صدر يوم 11 أكتوبر 1968 من الدار البيضاء، وكان مديرها المسؤول الوديع محمد. وفي كلمة العدد نقرأ: "تصدر جريدة فلسطين، آملة أن يعتبرها المغاربة قاطبة، ويرون فيها المعبر الأمين عن عزمهم على تدعيم الشعب الفلسطيني الشقيق، ورغبتهم في أن يوضع تحرير فلسطين فوق جميع الاعتبارات الحزبية والمذهبية وغيرها.. ونأمل كذلك أن يرى جميع المغاربة وإخوانهم الفلسطينيون في جريدة فلسطين، أداة مغربية، ومساهمة مغربية في جبهة من جبهات كفاح الشعب الفلسطيني، والأمة العربية ضد الاحتلال الصهيوني الاستعماري الذي لا يعتمد على القوة فحسب، بل كذلك على سلاح برهن عن فعاليته منذ 20سنة، ألا وهو الدعاية المنظمة والمركزة علمياً ودولياً".