الملاحظة الأولى من الاطلاع على التسريبات تؤكد أن قضية الصحراء تأتي على رأس أولويات الدبلوماسية المغربية، وهي مستعدة لأن تدافع عنها بكل الوسائل، وتبذل كل الإمكانات، بما فيها الدفع نقداً لصحافيين ومراكز البحث ولوبيات الضغط لفرض وجهة النظر المغربية، ومهاجمة أطروحة الخصم. ومثل هذا الأسلوب متعارف عليه في عالم الدبلوماسية، إلا أن ما كشفت عنه التسريبات أن الدفع يتم، أحياناً، في مقابل أشياء غير منتجة. كما كشفت قصاصات عن انشغال الدبلوماسية المغربية أحياناً بأمور ثانوية غير مجدية. أما مستوى اللغة الدبلوماسية، وكلها بالفرنسية، على الرغم من أن لغة البلاد الرسمية هي العربية، فقد كشفت التسريبات عن وجود أخطاء لغوية فظيعة في كتابتها، وأسلوب بعض القصاصات يركز على الحياة الشخصية لدبلوماسيين أمميين، مثل المراسلة التي تصف الممثل الخاص للأمم المتحدة في الصحراء بأنه مجرد "مدمن كحول"!
الملاحظة الثانية، أن هذه التسريبات كشفت أن تلميع صورة المؤسسة الملكية في الخارج يتم بالدفع المباشر نقداً، وبصفة منتظمة لكتاب صحافيين ولمراكز بحث غربية لكتابة مقالات وتقديم قراءات تعكس صورة إيجابية عن نظام الحكم في المغرب. ومثل هذه الطريقة تسلكها أغلب الأنظمة المهووسة بصورتها لدى الرأي العام الخارجي. لكن، ما كشفت عنه بعض التسريبات أن تلميع صورة النظام يمكن أن يتم حتى لو كان ذلك على حساب صورة البلد. فقد ذكرت إحدى التسريبات أن جهة مخابراتية في المغرب دفعت 20 ألف دولار لصحافي أميركي في مقابل مقال يتهجم فيه على تجربة الحكومة التي يقودها حزب إسلامي في المغرب، في العام الأول لتنصيبها، ويحذر المستثمرين من أنها تسير بالمغرب نحو نموذج "طالبان" أو إيران، ليصل إلى استنتاج أن الوحيد القادر على كبح جماح هذا الخطر هو ملك المغرب، وبالتالي، هو الذي يجب أن يراهن عليه الدعم المطلوب من الرئيس الأميركي.
الملاحظة الثالثة، كشفت هذه التسريبات عن وجود اختراق كبير داخل الجسم الصحافي المغربي، وعلى أعلى المستويات. فقد أوردت تسريبات اسم صاحب مؤسسة صحافية كبيرة في المغرب، واسم مسؤولة كبيرة في قناة رسمية مغربية، وأسماء صحافيين، يتلقون التعليمات من جهاز مخابرات للكتابة في مواضيع معينة من زوايا محددة، ولشن حملات إعلامية لأغراض سياسية، ولمواجهة الانتقادات التي تطال النظام في المغرب، ومهاجمة خصومه، ولتوجيه الرأي العام المغربي بما يخدم أجندة سياسية معينة. وهذا الأسلوب هو الآخر متداول في الأنظمة السلطوية، لكنه يطرح سؤالا كبيراً بشأن المصداقية التي تم ضربها في الصميم، والتي لا يمكن تخيل نجاح أي خطاب إعلامي، حتى لو كان دعائياً، بدونها.
وعلى الرغم من حساسية الوثائق التي تم تسريبها، وحساسية المواضيع التي تناولتها، لم يصدر عن السلطات المغربية أي نفي أو تأكيد لمحتوياتها، ما جعل وسائل إعلام كثيرة خارج المغرب تتعاطى معها كوثائق صحيحة، على الرغم من أنها مجرد تسريبات على حساب مجهول الهوية.
وحتى عندما سُئل وزيرا الخارجية والاتصال المغربيان عن هذه التسريبات، لم ينفيا وجودها ولا صحتها، وإنما اتهما الجزائر بالوقوف وراءها، من دون تقديم إيضاحات أكثر. وكما يقال، ربَّ عذر أكبر من الزلة، لأن إقرار المسؤولَين المغربيَّين بوقوف الجزائر وراء الجهة التي تقوم بهذه التسريبات اعتراف ضمني بأن الجزائر، التي تعتبر في العقيدة الدبلوماسية المغربية بمثابة العدو الأول للمغرب في قضية الصحراء، نجحت في اختراق جهاز دبلوماسيتهم. وبالتالي، الجواب الطبيعي على مثل هذا الاختراق من "العدو" هو استقالة أو إقالة المسؤولين عن هذا التقصير، وليس تحميل "العدو" أسباب الفشل، فهو لم يقم بغير دوره، خصماً كان يجب التصدي له، وليس تحميله مسؤولية الفشل.
والمفارقة أنه طوال الشهور الثلاثة من توالي صدور هذه التسريبات، لم يؤد تسريبها ولا خطورة وحساسية المحتويات التي كشفت عنها إلى فتح نقاش حولها داخل المغرب. أما الصحافة، بما فيها الخاصة، فلم تتناولها، ومن تجرأ منها على فعل ذلك توخى حذراً كثيراً. لكن هذا لم يمنع انتشارها على المواقع الاجتماعية التي اتخذ منها روادها مادة للانتقاد، وأحيانا للسخرية المرة من أسلوب اشتغال دبلوماسية بلادهم. وحتى عندما طرح سؤال على وزير الخارجية في البرلمان، كان ذلك بهدف الإخبار والتأكد من صحة وجود هذه التسريبات، وليس بهدف المساءلة والمحاسبة على التقصير الذي أدى إلى تعرية أسلوب اشتغال الدبلوماسية المغربية.
أما الصحافيون الغربيون الذين وردت أسماؤهم في التسريبات، فقد خرج بعضهم، خصوصاً الفرنسيين، عن صمتهم، وكتبوا مقالات يدافعون فيها عن ذممهم، من دون أن ينفوا تعاونهم مع جهة إعلامية داخل المغرب، كشفت التسريبات، أنها ليست سوى واجهة لجهاز مخابراتي مغربي.
وإلى الآن، لم يطرح السؤال حول كيف استطاع شخص مجهول أن يخرج كل هذه التسريبات السرية إلى العلن. كما لم يصدر ما يفند صحتها أو يرد عليها، على الرغم مما تكتسيه محتويات بعضها من حساسية. وقبل ذلك، لم يعلن عن فتح أي تحقيق في الموضوع. ولو صدقنا صحة بعض هذه التسريبات، فإنها تكشف عن تبذير فظيع للمال العام، من دون حسيب أو رقيب، من أجل خدمة أجندات سياسية، لا تصب بالضرورة في المصلحة العامة. أما المسؤولية عما وقع، فلا أحد يريد أن يتحملها، أو على الأقل يسأل عن صاحبها. فقد التزم كل المسؤولين الرسميين والدبلوماسيون والإعلاميين الكبار الذين وردت أسماؤهم في هذه التسريبات الصمت، وكذلك فعلت الطبقة السياسية والحكومة والبرلمان، وكأن شيئا لم يقع!
كان أهم إصلاح حمله الدستور المغربي الحالي ربطه في ديباجته بين المسؤولية والمحاسبة. وفي هذه القضية، مثل قضايا عديدة هزت الرأي العام المغربي أخيراً، من قبيل فضيحة ملعب كرة القدم في الرباط، وموت 36 مغربياً غرقاً بعد أن جرفتهم مياه السيول، والموت الدوري لعشرات تحت سقوف بيوتهم المتهاوية، لم يُطرح سؤال المسؤولية، وأبعد من ذلك المحاسبة. ففي المغرب ما يغطي على فضيحة فضيحة أخرى أكبر منها. وفي انتظار الفضيحة التالية، ستستمر تسريبات هذا القرصان في إسقاط أوراق توت عن الدبلوماسية المغربية، حتى آخر ورقة في حسابه المجهول.