دموع السيسي
يتذكر الجميع صورة المشير عبد الفتاح السيسي، وهو يبكي في اجتماع مع شيوخ طرقٍ صوفية، جاؤوا يبايعونه قبل أن تُفتح صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية المصرية في مايو/أيار الماضي. ولم تكن الصورة، في حد ذاتها، جديدة في مصر التي ينتشر فيها التصوف، وتضع فيها الطرق الصوفية نفسها في خدمة النظام السياسي. حدث ذلك في عهود جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك. وبعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، أقصى النظام الحالي وعاظاً وخطباء كثيرين، منتمين إلى حركات إسلامية سياسية، أو متعاطفين معها، وقرر إعادة إحياء دور الطرق الصوفية وشيوخها، من خلال الحضور المكثف في وسائل الإعلام والنزول إلى حقل السياسة، في أثناء استحقاقات الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية.
وقد ظلت العلاقة دائماً متشنجة، يطبعها العداء، بين التصوف والإسلام السياسي، وخصوصاً في شقه السلفي المنتمي للوهابية، فهو يكفّر الطرق الصوفية، ويعتبر طقوسها بدعاً وشركاً. أما العلاقة مع حركات الإسلام السياسي المعتدلة، فيطبعها التوتر والبرود، وأحيانا الغموض، فحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين التي انخرطت في العمل السياسي منذ تأسيسها، تلقى تربية صوفية على الطريقة الحصافية الشاذلية، وعبد السلام ياسين، مؤسس جماعة العدل والإحسان، التي تعتبر أكبر جماعة إسلامية في المغرب لا تخفي ممارستها السياسة، انشق عن الطريقة "البودشيشية" الصوفية. والجماعتان، المصرية والمغربية، حاولتا أن تحافظا على علاقة مهادنة مع التصوف، حتى عندما تستغله سياسياً الأنظمة لضربهم.
فطوال صراعها مع تيارات الإسلام السياسي، عرفت الأنظمة السلطوية، في أكثر من بلد عربي، كيف تستغل هذا التنافر الكبير والعداء التاريخي بين الإسلامين، الصوفي والسلفي، عملاً بقاعدة "عدو عدوي حليفي".
توصيات أميركية وإسرائيلية
وإذا كان توظيف الطرق الصوفية لخدمة السلطة قديماً، إلا أن استعانة أنظمة سلطوية بها، اليوم، بات مطلباً غربياً، توصي به وتدعمه تقارير معاهد تؤثر في صنع القرار في عواصم بلدانها. وقد وردت فكرة الاستعانة بالطرق الصوفية وتوظيفها لمواجهة "الإسلام السياسي"، توصية في دراستين لمعهدين أميركي وإسرائيلي. ففي مارس/آذار 2007، نشرت مؤسسة راند دراسةً، تشخص الأزمة المعاصرة للإسلام، والمتمثلة، في نظرها، في فشله في التطور لمواكبة الثقافة العالمية، ما ساهم في إيجاد حالة من عدم الارتياح بين الطرفين.
ودعت الدراسة الصادرة عن مؤسسة بحثية تابعة للقوات الجوية الأميركية إلى تشجيع الإسلام الذي يكون "أكثر تماشيا مع السلم العالمي والمجتمع الدولي، والمحبة للديمقراطية والحداثة". ووصفت هذا النوع من الإسلام بـ"الأرثوذكسي" أحياناً، و"الشعبي" أحيانا أخرى، أي الإسلام التقليدي الذي يمثله التقليديون والمحافظون والمعتدلون. ومما أوصت به الدراسة الولايات المتحدة، والغرب عموماً، دعم الحداثيين كأولوية، وتشجيع العلمانيين، ومساندة التقليديين ودعمهم على حساب الأصوليين. وحثت صراحة على "تشجيع المذهب الحنفي مقابل المذاهب الأخرى".
وكان مفاجئاً أن تتكرر التوصية نفسها في عز خريف "الربيع العربي"، وهذه المرة من معهد إسرائيلي، فقد نشرت وسائل إعلام عربية في مايو/أيار 2014، توصية مركز هرتسليا، وهو أهم مراكز البحث الإسرائيلية، الغرب بدعم الطرق الصوفية في العالم العربي، لمحاصرة "الإسلام السياسي".
ولم تكن أنظمة سلطوية عربية لتنتظر مثل هذه التوصيات، للاستعانة بالزوايا والطرق الصوفية، لمواجهة معارضيها من أتباع تيارات الإسلام السياسي. وليس النظام المصري الأول أو الوحيد بين الأنظمة العربية السلطوية التي استعانت بالإسلام الصوفي، كإسلام يبتعد بالناس عن السياسة لمحاصرة مد "الإسلام السياسي" ومواجهته. فقد تكرر السيناريو نفسه، في أكثر من بلد عربي إفريقي، وهي المنطقة التي تنتشر فيها الطرق الصوفية بكثرة، ومازال دورها مؤثراً وبارزاً. ففي الجزائر، لجأت المؤسسة العسكرية، والتي تحكم من خلف الستار، إلى توظيف الزوايا الصوفية في حربها ضد التيارات الإسلامية التي تتبنى العنف. والحالة الأكثر جلاء في توظيف التصوف إلى درجة أنه كاد يصبح فيها "دين الدولة" الرسمي نجدها في المغرب.
الصوفية "دين الدولة" في المغرب
لعل أهمية تسليط الضوء على الحالة المغربية في أنها ليست وليدة ظروف سياسية حديثة، وإنما لها جذور ضاربة في التاريخ. فقد استمدت أغلب الأسر الملكية التي حكمت المغرب شرعيتها من دعم الزوايا والطرق الصوفية لها، وغالباً ما كان يبرز اعتماد السلطة على الزوايا في أثناء الأزمات، وظهر ذلك أثناء مواجهة السلطة، قبل ثلاث سنوات، استحقاقات "الربيع العربي"، عندما لجأت إلى أكبر زاوية صوفية في المغرب، لحشد الدعم السياسي للإصلاحات التي أعلنت عنها لاحتواء غضب الشارع.
وكان توجه السلطة في المغرب نحو إعادة توجيه دور الزوايا والطرق الصوفية وتشجيع الإسلام التقليدي، قد بدأ إلى البروز علناً، واتخذ طابعا رسميا بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. وستنتبه السلطة في المغرب إلى أهمية تشجيع "الإسلام الشعبي"، أي التقليدي والصوفي، بعد تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية عام 2003، والتي تورط فيها محسوبون على تيار الإسلام المتشدد القادم من الشرق، ويصفه الإعلام بـ"السلفية الجهادية".
ففي سنوات المواجهة مع الأحزاب والتيارات اليسارية الراديكالية، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، شجعت السلطة الإسلام القادم من الشرق الذي حمله معهم معارضون إسلاميون هاربون من أنظمتهم القمعية في سورية ومصر، ومولته، بتغاض من السلطة وربما بتشجيع وتواطؤ معها، وسائط الدعوة السلفية الوهابية لمواجهة تصدير "التشيع" بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979.
وعندما ظهر خطر "السلفية الجهادية" وتفرعات تنظيماتها المتطرفة والتكفيرية، وعلى إثر انخراط المغرب في الحرب الأميركية على "الإرهاب"، طرحت السلطة مشروع "إعادة هيكلة الحقل الديني"، القائم على فكرة تشجيع الإسلاميْن، التقليدي والصوفي، لمحاربة "الغلو الديني"، وقطع الطريق على "الإسلام السياسي".
وتجلى اتجاه السلطة هذا واضحاً في تعيين متصوف وزيراً للأوقاف والشؤون الإسلامية، هو أحمد التوفيق، والباقي في موقعه منذ عام 2003. والإغداق بالهبات المالية على الزوايا والطرق الصوفية، وتشجيع حضور أنشطتها في الإعلام الرسمي، وفي المجال العام، بتشجيع وتمويل مواسمها واحتفالاتها وطقوسها وندواتها ومؤتمراتها.
ثقافة الخضوع
تلتقي سياسة السلطة، القائمة على مبدأ "التحكم والتسلط"، مع تقاليد الطرق الصوفية القائمة على ثقافة "السمع والطاعة"، الواجب على المريد تجاه شيخه، وهي الثقافة التي تريد السلطة تكريسها في المجال السياسي، من خلال "طاعة ولي الأمر". ومن أجل نشر هذه الثقافة الصوفية التي تخدم مصلحة السلطة، تقدم الدولة دعماً رسمياً للزوايا الصوفية، لتكريس الصوفية توجهاً دينياً في المجتمع، علاوة على إيجاد توازن سياسي داخل الحقل الديني، لوقف تمدد التيارات الإسلامية المحسوبة على "الإسلام السياسي" وتطورها.
ومن مظاهر الرعاية الرسمية للزوايا الصوفية، بالإضافة إلى الهبات المالية من خزينة الدولة تحت عنوان "هبات ملكية"، لا تخضع للمراقبة أو المحاسبة، تسلم الدولة قرارات التعيين لشيوخ الطرق الصوفية المعروفة، وبتجديد المراسيم القانونية الخاصة بمنح "التوقير والاحترام" للمنتسبين لها. والهدف من ضخ هذه المنشطات في زوايا الإسلام الصوفي وطرقه، تكشف عنه رسالة وجهها الملك محمد السادس، العام الماضي، إلى المشاركين في مؤتمر إحدى هذه الزوايا، وتحدد المطلوب منها، "خدمة الدين والوطن". وتوضح الرسالة الملكية: "أما خدمة الدين، فمنهجكم القويم فيها يتمثل، أساساً، في الاعتصام بالكتاب والسنة وإشاعة العلم وتهذيب النفس بالإكثار من الذكر. وأما خدمة الوطن فتتمثل، أساساً، في القيام بالواجب نحو الإمامة العظمى التي تمثلها إمارة المؤمنين، والحرص على خصوصيات المغرب الثقافية، حتى لا تضمحل تحت تأثير كل المشوشات الدخيلة"، وحسب الدستور المغربي، فإن الملك هو "أمير المؤمنين"، وممثل "الإمامة العظمى".
وما لم تفصح عنه الرسالة الملكية يكشف عنه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، وهو من أتباع "البودشيشية" التي تعتبر أكبر طريقة صوفية في المغرب، في قوله إن الهدف من التربية على ما يسميه بـ"السلوك الصوفي" هو "إعادة اكتشاف قيم فاعلة، لا يجوز أن يجهلها الشباب، حتى لا يظن أننا بحاجة إلى استيرادها من منابع أخرى". ويعتبر أن الاهتمام بالتصوف "مقترن بالسكينة وبالغيرة، لذلك، فهو مؤهل لعلاج الغلو اليوم، كما عالجه بالأمس"، و"الغلو" هنا مفهوم فضفاض، قد يطال كل تأويل للدين، لا يخدم السلطة.
النفخ في جثة والنفخ في النار
محاربة ما يصفه الوزير المغربي بـ"الغلو"، في إشارة إلى الإسلام السياسي، قد يتطلب "تسييس" الزوايا الصوفية، لمواجهة أطروحات الإسلام السياسي، مع كل ما قد يحمله هذا "التسييس" من خطر مستقبلاً، فهو كمن ينفخ في الجمر تحت الرماد، لأن تاريخ المغرب حفل بنماذج الزوايا الصوفية التي قويت، حتى أصبحت لها طموحات سياسية.
وفي مقابل هذا التخوف من "تسييس" الزوايا الصوفية، هناك من يعتبر أن محاولة السلطة إعادة إحياء دورها كمن ينفخ في جثة، لأن دور الزوايا وتأثيرها تراجع، وصلتها بالواقع شبه منقطعة، ووجودها أصبح يغلب عليه الطابع الاحتفالي والطقوسي، وأغلب روادها من الفئات الميسورة التي تمارس طقوس التصوف، كنوع من الرياضة الروحية، بحثاً عن التطهير الروحي. وربما قد تكون هذه غاية السلطة من تشجيع مثل هذا النوع من الإسلام، الذي يشجع رواده على الابتعاد عن السياسة، والاهتمام بما هو روحي. لكن، الهدف المسكوت عنه هو مواجهة "الإسلام السياسي" الذي يجمع بين الدين والسياسة، ولا تسمح قوانين السلطة في المغرب لأي تيار ديني أو سياسي أن يجمع بينهما، مع استثناء سلطة الملك الذي يمنحه الدستور حق الجمع بين السلطتين، الدينية والسياسية، تحت عنوان "إمارة المؤمنين".
هل نجح النموذج المغربي؟
على الرغم من أن المغرب لم يشهد أعمال عنف ترتكب باسم الدين منذ التي حصلت في الدار البيضاء عامي 2003 و2007، وفي مراكش عام 2011، إلا أنه لا يكاد يمر شهر من دون أن تعلن السلطات الأمنية المغربية عن تفكيك خلايا لمتطرفين دينيين، إلى درجة أنه لم يعد يعرف ما إذا كانت مثل هذه الإعلانات حقيقية، أم تدخل في إطار استراتيجية أمنية، للتنبيه والتحذير من يقظة الأجهزة الأمنية. وفي الحالتين، هذا يدل على أن خطر الاستقطاب، الذي كانت تمارسه التيارات الدينية المتشددة وسط الفئات الفقيرة في المجتمع، مازال قائماً، والدليل البارز هو أعداد المنخرطين في صفوف التنظيمات الدينية المتطرفة في سورية والعراق، فقد كشف وزير الداخلية أن عدد المغاربة في "داعش" يفوق 1200 مقاتل، وتقدر تقارير صحافية عددهم في التنظيمات الدينية المتشددة في سورية والعراق بأكثر من 3000 مقاتل.
أما أتباع الإسلام الصوفي، فلا تظهر قوتهم إلا في المناسبات الطقوسية لطرقهم، وداخل المجتمع يكاد لا يوجد أي أثر لهم، ما قد يفسر بأن تأثير الزوايا والطرق يقتصر على أوساط فئات ميسورة أصبحت تقبل على طقوس الإسلام الصوفي، كنوع من التطهير يشبه ممارسة "اليوجا". وتزداد قاعدة الفئات المحرومة اتساعاً في المجتمع المغربي، مع تنامي الفوارق الطبقية، فما زالت تجد ملاذها في التخدير والتأثير الذي تمارسه عليها دعاية التنظيمات الدينية المتطرفة، في وسائط الإعلام الحديثة التي تنشر فكر الإسلام المتشدد.
وما لا تنتبه إليه السلطة في المغرب أن محاولاتها ضرب الإسلام السلفي المشرقي بالإسلام الصوفي المغربي، يكون على حساب شعاراتٍ سياسية ترفعها الدولة، من قبيل التحديث والديمقراطية، فإعادة إحياء طقوس التصوف البالية هي عودة إلى تعطيل ملكة العقل والتفكير، وتشجيع لثقافة التقليد والخرافة. كما أن ثقافة "الشيخ والمريد" التي يقوم عليها الفكر الصوفي تكرس فكر الخنوع والخضوع، وتنبذ ممارسة النقد والاعتراض التي بدونها لا تستقيم أية ديمقراطية. فقاعدة المتصوفة تقول "من اعترض امترض". و"المريد" في الثقافة الصوفية تابع مطيع لشيخه، بل هو "كالميت بين يدي غاسله".