يطرح التقرير الموجه لصانع القرار الأميركي ثلاثة سيناريوهات ممكنة لتطور أداء الجماعة في المستقبل، تتمثل في المصالحة مع القصر، والاندماج في الحقل السياسي الرسمي، أو الاستمرار على مواقفها الرافضة للمشاركة في اللعبة السياسية، بانتظار أن تنضج ظروف التغيير السلمي، وأخيراً، البحث عن تحالفات مع قوى سياسية، لكسر العزلة التي تعاني منها، وفي الوقت نفسه، السعي إلى تشكيل جبهة معارضة واسعة للنظام. وطوال صفحات التقرير الطويل تستعرض الباحثة احتمالات نجاح وفشل كل واحد من السيناريوهات.
وبشأن الخيار الأول، يربط التقرير نجاحه بفرضية تحول الجماعة إلى حزب سياسي، لكن هذا التحول يتطلب تنازلاتٍ من الجماعة ومن السلطة في الوقت نفسه. من قبيل اعتراف الجماعة بـ»إمارة المؤمنين» التي تشكل إحدى أسس النظام الملكي في المغرب، ومرونة كبيرة من السلطة، للترخيص لمعارضة قوية ومتجذرة في الشارع، بتأسيس حزب سياسي معارض معترف به.
وترى فيش ساكتيفال، أن الخيار الثاني يقسم «العدل والإحسان» إلى اتجاهين، يخترقان صفوف قيادتها بين مؤيدين للمشاركة في اللعبة السياسية ورافضين لها. وفي الحالتين، يحمل في طياته، من وجهة نظرها، تحديين كبيرين متناقضين، لا توفر قيادات الجماعة أجوبة واضحة عن كيفية مواجهتهما.
فالجماعة بنت جزءاً مهماً من صدقيّتها لدى أتباعها على معارضتها للنظام، لكن استمرار جلوسها على كرسي المعارضة يهددها بالاستنزاف والتآكل من الداخل، لأن أتباعها ممن فقدوا الأمل في الأحزاب السياسية الأخرى سيشعرون باليأس والإحباط من حالة «الانتظارية» التي تبني عليها الجماعة استراتيجيتها في التغيير. حيث كشف التقرير أن بعض أتباع الجماعة التي تقاطع كل الاستحقاقات الرسمية لا يترددون في التصويت على مرشحي حزب العدالة والتنمية الذي يقود اليوم الحكومة في المغرب.
ويبقى الخيار الثالث، وهو بحث «العدل والإحسان» عن بناء تحالفات مع قوى معارضة أخرى، حتى لو كانت ذات اتجاهات يسارية، ولا تخفي توجهاتها العلمانية. ويتطلب هذا الخيار، هو الآخر، من الجماعة تقديم تنازل في مواقفها الفكرية وقناعاتها العقدية، بما يبدد هواجس اليساريين والعلمانيين من رؤيتها المجتمعية، وهو أمر ليس سهلاً شرحه لأتباعها.
وقد حاولت الجماعة تجريب الانخراط في مثل هذا التحالف في أثناء الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب، بمشاركتها في حركة 20 فبراير الشبابية التي جمعت في صفوفها أصنافاً من المعارضات الإسلامية واليسارية والعلمانية والليبرالية. لكن الجماعة ستقرر، من جانبها، الانسحاب من هذا التحالف، في لحظة حرجة من مراحل مواجهته مع النظام، ليكون مآله التشتت والاضمحلال. وعلى الرغم من أن قيادات في الجماعة عادوت، أخيراً، إلى مد اليد مجدداً إلى حلفائها داخل هذا الحراك، إلا أنه يصعب إعادة اللحظة التاريخية التي أتاحها «الربيع العربي». ويظل هذا الخيار المستبعد تحققه في المستقبل المنظور، أسوأ سيناريو يرعب النظام الذي سعى، دائماً، إلى تفريق صفوف معارضيه، وهو اليوم أكثر حساسية تجاه كل تقارب من هذا النوع، بعد أن وعى درس التجربتين المصرية والتونسية في هذا المجال.
ينتهي التقرير إلى أن المستفيد حالياً من حالة الانقسام داخل صفوف المعارضة للنظام، ومن استراتيجية «الكمون» التي تنتهجها أكبر جماعة إسلامية معارضة في المغرب، هو القصر الذي تزداد هيمنته ونفوذه داخل الدولة والمجتمع. أما الاستنتاج الذي يخرج به من يطلع على التقرير فهو أن الحاجة، اليوم، إلى «العدل والإحسان»، على اعتبار أنها أكبر قوة سياسية معارضة للنظام في المغرب، متعددة الجوانب، تستدعيها حالة الجمود التي تطبع المشهد السياسي المغربي، في ظل الهيمنة شبه المطلقة للقصر، وتراجعه عن كثير من وعوده بالإصلاح. كما تستدعيها الأسئلة الملحة المطروحة على الإسلام السياسي المعتدل، بعد النكسات التي تعرضت لها تجاربه في السلطة، في أكثر من بلد عربي، وأيضاً في ظل التحدي الكبير الذي تفرضه، اليوم، على المجتمع الدولي خيارات التيارات الإسلامية المتطرفة.
ويرى تقرير «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» الموجه، أصلاً، إلى الإدارة الأميركية، أن الحاجة إلى مشاركة هذه الجماعة في اللعبة السياسية داخل المغرب، يقوم عليها استمرار وجود الجماعة نفسها، ويساهم في استقرار المغرب، بما يخدم مصالح أميركا. لذلك، يوصي الإدارة بتوخي الحذر عند استعمال ما لها من أدوات «التأثير الناعم»، لإقناع النظام والجماعة معاً لإنهاء حالة «التربص المتبادل» بينهما.
وبناء على ما حاول هذا التقرير إبرازه من قوة حضور هذه الجماعة داخل المشهد السياسي المغربي، وعلى ضوء نكسات تجارب «الإسلام السياسي» في بعض بلدان «الربيع العربي»، فإن «العدل والإحسان» تمثل تجربة مثيرة للدراسة. فهي، كقوة معارضة، كانت في صدارة المطالبين بالتغيير، وظلت طوال فترة الحراك الشعبي بمثابة الظهر الذي استندت إليه حركة 20 فبراير الاحتجاجية في المغرب، ورفضت عرض السلطة، عندما أقدمت الأخيرة، تحت ضغط الشارع، على تقديم تنازلاتٍ، اتضح، فيما بعد، أنها كانت شكلية، وأن الهدف منها كان الالتفاف على مطالب الاحتجاج. وعندما هدأ الشارع، عادت الجماعة إلى مواقفها الرافضة للدخول في لعبةٍ سياسيةٍ، تعتبر أن قواعدها مغشوشة. وتكمن قوة هذه الجماعة التي يرفض النظام في المغرب الاعتراف بها في أنها ظلت دائماً ترفض العنف، حتى في أحلك لحظات التضييق عليها، وفي استقلالية قرارها في الداخل وعدم تبعيتها للخارج، وأيضاً، في منهجها في التغيير القائم على التربية، في انتظار أن تنضج شروط التغيير السلمي. كما تستمد مصداقيتها من رفضها الجلوس على الطاولة نفسها مع الفاعلين السياسيين الآخرين في المغرب، والذين قبلوا المشاركة في اللعبة السياسية، طبقاً للشروط التي فرضها عليهم النظام، وليس استجابة لما كانوا يطالبون به، عندما كانوا في صفوف المعارضة. فالجماعة تستمد، اليوم، الكثير من شرعيتها الشعبية من معارضتها النظام، وعدم رضوخها لشروطه، لكن حالة الانتظار على دكة المعارضة تكبل قوتها، وتهددها بالاستنزاف من الداخل، وهو ما يجعلها أمام مفترق طرق كبير.