كنا ،قد أصبحنا وجهاً لوجه أمام سؤال قاسٍ : هل تمة فعلاً مجال لاستمرار الحديث عن "قضية فلسطينية" ؟
كانت -تقريباً-فلسطين قد كفت عن أن تكون إسماً مستعاراً للحلم وعنواناً للتقدم . مسارات التفاوض وإعادة التفاوض حول أنصاف أنصاف الحلول ،أدخلت ماتبقى من القضية في متاهات وتفاصيل التكتيكات التي بلا أفق. التحارب الفصائلي الداخلي أضاع بوصلة الانتماء وأصاب الهوية الفلسطينية بشرخ حاد.
لنتذكر،فالصراع حول فلسطين ، ليس جديدا. لقد كانت فلسطين دائما رأسمالا رمزيا للاستغلال السياسي وللرهانات الإيديولوجية، وقطعة جاهزة في البلاغة الخطابية لجل العواصم العربية. فقد كان لكل نظام عربي فلسطينه التي على المقاس، وفي حالات معروفة كان لبعض الأنظمة فصيلها الفلسطيني بل وحتى بندقيتها الفلسطينية.
لكن في النهاية ،كانت هناك مرجعية وطنية مشتركة للقرار الفلسطيني ،وهي التي ظلت ترسم العنوان الوطني للقضية وتحدد عناصر موقفها العام .
ما وقع بعد ذلك أبعد من تناقضات داخلية لحركة تحرر وطني ،ما وقع بعد ذلك إنشطار مدويٌ في المرجعية الوطنية نفسها ، و شرخ واسع في وحدة نضال الشعب الفلسطيني كان على وشك وأد القضية بالكامل ! .
قبل عقدين، ستدخل غزة التاريخ الانساني ،من خلال شعار سيجوب كل الأفاق "غزة واريحاً اولاً "،كانت حينها غزة عنواناً للتسويات السياسية الممكنة وللذكاء الاستراتيجي الذي يسمح بسلام الشجعان،غير أن "السجع الرنان" لذلك الشعار لم يكن كافياً لاستدراج اسرائيل الى منطقة حل الوسط التاريخي .
وفي يوميات السياسات العربية ،سيصبح الشعار المذكور حجة إضافية لتقديرات المدافعين عن الخيارات الأكثر "واقعية"،بما في ذلك أكثرها إستسلاماً وانهزامية ، وسيصبح ل "غزة وأريحا أولاً" أثرها الحاسم على الثقافة السياسية لقوى اليسار وعموم الديمقراطيين داخل الساحات العربية.
بامكان غزة اليوم ،كما كانت أمس[2012]وأول أمس[2008]،أن تخلع رداء "أوسلو" وأن تصبح عنواناً مختصراً لقدرة الشعوب على الصمود والمقاومة .
المقاومة اليوم في غزة ، وهي تعيد فلسطين لواجهة الأحداث ،و هي تعيد لملمة الوجه الأخلاقي للقضية الفلسطينية ،وهي تخترق مساحات هائلة من التعاطف السياسي والإنساني في أكثر الساحات إنجذاباً للدعاية الصهيونية ،لا تفعل في الحقيقة سوى على إحياء قضية كانت مهددة في وجودها .
يدرك الفلسطينيون ،أن إستراتيجيات إستعمال القضية من طرف المحاور الإقليمية ، جزء طبيعي من خريطة المحيط المعقد ،وهم يعرفون بالتأكيد أن معركتهم غير بعيدة عن أجواء الطائفية الجديدة التي تطوق المنطقة عبر تصاعد الإحتراب المذهبي بين الشيعة والسنة ،ولا هي معزولة عن تداعيات شرق جديد يذهب نحو التطرف والجنون .
وأكثر من ذلك فهم يدبرون بذكاء تحولات النظام الإقليمي ، خاصة على ضوء ضمور الدور المصري، إذ لم ينجروا الى حضيض الاستفزازات "المتصهينة" لقطاعات واسعة من الإعلام المصري ،وتمسكوا بالانفتاح على القاهرة .
يمكن لإنتفاضة فلسطينية ثالثة تلوح بوادرها في الأفق ،أن تعيد تعريف الصراع الى أصله الأول :كمقاومة للاحتلال ،وأن تنقلنا من مصالحة الفصائل الى وحدة النضال الشعبي ، وأن تقنعنا بأن فلسطين ملهمة الثورات وحركات التحرر ليست مستعصية بالتأكيد على ربيع التغيير. يمكنها أن تفعل ذلك إذا هي نجحت ،بطابعها الشعبي ، في الإنتصار على قطائع السياسة التي فرضها تقاطب السلطتين في غزة وفي القطاع ،وعلى قطائع الجغرافية التي فرضها السلام الكاذب.