بالعودة إلى التعليلات الشرعية التي يتشبث بها البعض من الفقهاء، فإنه للإنصاف أقول بأن الغالبية من الفقهاء، حتى في القديم وأيام غياب الفتوحات العلمية ، يقولون بتوحيد الرؤيا .. نظرا لوجود أدلة كثيرة جدا تدل على ذلك منها قوله تعالى : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه " فالخطاب موجه للمسلمين كافة ، في أي بلد كانوا ..وأمر :" فليصمه" يفهم منه صوم جميع المسلمين … فلم يقل أحد أبدا بوجوب الصيام فقط على الذين باشروا رؤية الهلال دون غيرهم.. فرؤية الهلال ليست فرض عين، بل هي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. والمسلمون ينهض بذمتهم أدناهم ، كما هو معروف .. فحتى الذين يقولون باختلاف المطالع لكل بلد لم يقل أحد منهم بوجوب رؤية الهلال على كل فرد مسلم .. فإذن لا إشكال كون "فليصمه" تنصرف لتشمل جميع أفراد المسلمين ..
ومن الأدلة أيضا : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : * صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته * رواه مسلم في الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤيته برقم 1081 فالخطاب موجه لكل المسلمين، و يزيد النبي ص تأكيدا لهذا المعنى في حديث: عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ " , أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا وَقَالَ : وَقْفُهُ عَلَيْهَا هِيَ الصَّوَاب ومفهومه يدل على لزوم جماعة المسلمين ، والحرص على توحيد هذه الشعيرة العظيمة وعدم تفريق كلمة المسلمين وصورتهم أمام العالم …
غير أن بعض الفقهاء .. أعرضوا عن كل هذه الأدلة البينة الواضحة التي تدعو إلى الوحدة وتشبثوا بقول منسوب لابن عباس *الذي رفض العمل برؤية معاوية في الشام، وقد كان بين معاوية وبين آل العباس والعلويين ما لا يخفى من الصراع والحرب و الخبر يقول:
"عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام فقال : قدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيته ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية ؟ فقال لا هكذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام.
و علل هذا الموقف من ابن عباس الإمام الشوكاني ، أحسن تعليل وأخرجه أحسن إخراج حيث قال (في نيل الأوطار): "واعلم أن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إليه بقوله هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو قوله فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين والأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين. كما أن حديث أبي هريرة (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري ومسلم
و كذلك ما رواه الترمذي في سننه ،حديث 802 عن الرسول ص :
مما يدل بوضوح تام دعوة الإسلام إلى توحيد شعائر المسلمين من صيام و فطر و أضحية
فلا دليل في قول ابن عباس رضي الله عنهما على اختلاف المطالع.
بل قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ما ينفي اعتبار اختلاف المطالع في حديث صحيح صريح، وهو كالتالي :"عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنِي عُمُومَةٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ غُمَّ عَلَيْنَا هِلَالُ شَوَّالٍ فَأَصْبَحْنَا صِيَامًا فَجَاءَ رَكْبٌ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فَشَهِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْطِرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ وَأَنْ يَخْرُجُوا لِعِيدِهِمْ مِنْ الْغَد.
( أحمد :19675،13463 ) ( النسائي : 1539 ) ( ابن ماجه : 1643 )
فلم يسألهم النبي ص عن المسافة التي كانوا عندها لما رأوا الهلال، كما أنه لا أحد من الفقهاء قد حدد معيارا توزن به هذه المطالع وكم عددها، ليبقى الحديث حجة دامغة في نفي اعتبار اختلاف المطالع.
و المعلوم أن المشهور في المذاهب الأربعة هو تعميم الرؤيا، فقد قال القرافي " إن المالكية جعلوا رؤية الهلال في بلد من البلاد سبباً لوجوب الصوم على جميع أقطار الأرض ، ووافقتهم الحنابلة "
وقال أحمد شاكر في كتابه : - أوائل الشهور العربية :ص 17 – 20 : "والبديهي الذي لا يحتاج إلى دليل أن أوائل الشهور لا تختلف باختلاف الأقطار أو تباعدها ، وإن اختلفت مطالع القمر ؛ فإذا غاب القمر بعد مغيب الشمس فقد دخل الشهر وبدأ الصيام…". و قبل ذلك قال : " بل الظاهر لنا من نقول بعض الناقلين أن أكثر الفقهاء لا يعتبرون اختلاف المطالع ، كما نقل النووي عن ابن المنذر ، مما يفهم منه أنه قول الأئمة الأربعة والليث بن سعد. و إن اختلف أتباعهم فيه بعد ذلك "
وقال ابن قدامة : " فصل : وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم ، وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي . الفروع:ج3/ص12.
غياب النظرة المقاصدية
الملاحظ عند مثل هؤلاء الفقهاء المطالعيين تغْييب النظرة المقاصدية في هذا المضمار، فهم لا يلتفتون إلى هذا الركن الركين في فهم الشريعة و هو علم مقاصد الشرع، لينظروا من خلاله إلى هذه الإشكالية التي تمزق وحدة الأمة في أهم ما كان يجب أن يوحدها.مع أن النظرة المقاصدية الملتزمة تحرر الباحث في قضايا المسلمين و قضايا الفقه الإسلامي و علم الشريعة من تلك النظرة النصية الضيقة، و تسموا بصاحبها فوق الاعتبارات المذهبية و التأويلات النصية و توجه نظره بعيدا إلى الآفاق التي يرمي إليها الشرع الحنيف في نصوصه المختلفة، و أقول جازما لو أن فقهاءنا التزموا بمقتضيات مقاصد الشرع و اتخذوه لهم نبراسا بعيدا عن كل هوى إقليمي أو سلطوي لكان حالنا غير الذي نرى اليوم.
فغريب أن يدَعَ بعض الناس أدلة دامغة، وأوامر جلية واضحة بلزوم الوحدة ، والحفاظ على الألفة، و هي من أجلِّ مقاصد الشريعة ثم ينصرفون إلى أدلة أقل ما يقال فيها أنها تحتمل و تحتمل. و ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال كما هو معروف عند علماء الأصول. ولا أظن أن الله الذي أنزل دينا من أهدافه الكبرى الوحدة بين أتباعه ، ورص الصفوف والحفاظ على جميع مظاهر هذه الوحدة .. لا أظن أن الله الذي امتن على المومنين بتأليف ما بين قلوبهم ، سيبعث رجلا هو كريب مولى بن عباس ليحول ما بينهم وبين هذه الوحدة إلى الأبد.
نظرة ساذجة
لا يزال المرء يصادف أناسا يعترضون على هذه الوحدة المنشودة بالاحتجاج بالقول أنه إذا توحدنا في يوم صومنا و يوم فطرنا و جب أن نتوحد في أوقات صلواتنا أيضا !! فلا يمكن لمن هم في المشرق أن يصوموا أو يفطروا برؤية من هم في المغرب أو العكس طالما أننا نختلف في مواعيد صلواتنا ! و على ما في هذا القول من سخافة و سذاجة فإنك لا تعدم سماعه من كثير من العامة، و حتى من بعض من اشتبه عليهم الأمر من متعلمين في زمن فتحت العلوم أبوابها على مصراعها للجميع، إذ يغيب عن علم هؤلاء و وعيهم أن الصلوات مرتبطة بالنظام الشمسي بينما بدايات الأهلة مرتبطة بالتقويم القمري. و أن ما يعترضون على وقوعه كائن في أي بلد ينتمون إليه. فإذا كان اختلاف مواعيد الصلاة مبررا عندهم لاختلاف مواعيد بدء الشهور القمرية، و بدء الصيام و الفطر و الحج، فإن هذا الاختلاف في مواعيد الصلاة يكاد لا يخلوا منه أي بلد في العالم. فوجب طبقا لهذا الفهم السقيم أن يختلف التقويم القمري في البلد الواحد، و هذا ما لم يقل به احد. بينما مقتضاه يجري على ألسنة كثير من الناس.
و يحاول البعض في سعيه لتبرير هذا التمزق أن يجَمل من صورته في أعين الناس، و يستدعي له رسم لوحات جمالية بالقول أنه من الجميل الرائع أن يخرج الناس في كل بلد إلى أسطح منازلهم و دورهم، أو إلى قمم الجبال و رؤوس الآكام ليراقبوا الهلال فإذا رأوه هللوا و زغردوا. ففي ذلك ارتباط للمسلمين بالقمر محور تقويمهم، و علاقة حميمة بين المسلم و آيات الآفاق من شمس و قمر !
لكن فاتهم أن الوحدة لا تتنافى مع ذلك الجمال، و أن التطلع إلى آيات الأنفس و الآفاق لا يقتصر على أيام معينة في السنة و إنما هي أوامر يومية يصدع بها القرآن في أغلب آياته.
في الحلقة الثالثة و الأخيرة سأبسط أمامكم بحول الله بحثا علميا حول إشكالية اختلاف المطالع. بعنوان : إختلاف المطالع أم تباين المطامع؟