فرغم تعاقب الكثير من الأحداث التاريخية الكبرى، فقد ظلت الوثيقة الدستورية التي جرى اعتمادها يوم 17 ماي 1814، راسخة في الوعي الدستوري الجمعي للشعب النرويجي إلى اليوم.
الجمعية الدولية للقانون الدستوري اختارت أن تنظم المؤتمر الدولي التاسع للقانون الدستوري بأوسلو بالتزامن مع هذه الذكرى، وذلك بمشاركة عدد من الدستوريين المغاربة وبمشاركة حوالي 80 دولة من مختلف دول العالم..
قصة الدستور النرويجي صالحة لاستلهام الكثير من الدروس والعبر..فبعد اعتكاف دام ستة أسابيع نجح أعضاء الجمعية التأسيسية في التوافق على وثيقة دستورية مستوحاة من إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية 1776 ومن إعلان الثورة الفرنسية لـ 1798 الذي لم تكتب له الحياة فيما بعد..
النظام السياسي في النرويج نظام ملكي دستوري برلماني، وملك النرويج هو رئيس الدولة، بينما رئيس الوزراء هو رئيس السلطة التنفيذية، وتتبنى مملكة النرويج مبدأ الفصل بين السلطات منذ 17 مايو 1814.
الملك لازال يحتفظ بسلطات ذات طابع تنفيذي فهو الذي يعين الوزراء وهو الذي يقيلهم، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة النرويجية، وهو السلطة العليا في الكنيسة النرويجية، وهو رمز وحدة البلاد والممثل الدبلوماسي الأول للنرويج في المحافل الدولية.
غير أن رئيس الوزراء يظل هو المسؤول الأول عن ممارسة السلطات التنفيذية، أما السلطة التشريعية فهي مسنودة إلى الحكومة والبرلمان، ولكن هذا الأخير يظل هو السلطة التشريعية العليا في البلاد ويتكون من غرفة واحدة، ويبلغ عدد النواب 150 نائبا ينتخبون على أساس التمثيل النسبي من 19 دائرة انتخابية لمدة أربع سنوات، كما تخصص مقاعد إضافية وعددها 19 وتسمى «مقاعد التسوية» في انتخابات تشمل كافة البلاد لجعل التمثيل في البرلمان متناسبا أكثر مع أصوات الناخبين.
يعين رئيس الوزراء من الحزب الأول في البرلمان الذي يسعى إلى الحصول على أغلبية البرلمان بالتحالف مع أحزاب أخرى..
علاقة الكنيسة بالدولة أثارت الكثير من النقاش بحيث يشترط في الحكومة أن يكون أكثر من نصف أعضائها منتمين إلى كنيسة النرويج وهي الكنيسة اللوثرية..
لتنسيق العلاقة بين الملك ورئيس الوزراء ينعقد مجلس للدولة للتشاور الرسمي بين المؤسستين، فبالإضافة إلى الموافقة على القوانين البرلمانية (التي مصدرها البرلمان)، يقوم الملك بمنح الموافقة الرسمية على كافة القوانين الحكومية (التي مصدرها الحكومة)، قبل، وبعد توجيهها إلى البرلمان، ومع مرور الوقت بدأت العلاقة بين المؤسستين أكثر سلاسة لفائدة توطيد دعائم النظام البرلماني..
تعرض دستور 1814 للعديد من التحديات، كان أخطرها اندلاع الحرب العالمية الأولى والثانية، وغزو ألمانيا للنرويج، مرورا بمحاولات الضم التي تعرضت إليها النرويج من طرف كل من السويد والدانمارك.....
ومع ذلك، فخلال مسيرة قرنين، حافظ الدستور النرويجي على هيكله العام، مع الخضوع لبعض التعديلات الأساسية: ففي سنة 1913، أي بعد حوالي 100 سنة كاملة على صياغة الدستور، جرى الاعتراف بالحق في التصويت بالنسبة إلى المرأة، كما جرى الاعتراف بحرية المعتقد سنة 1974، وخلال السنة الحالية، جرت مراجعة الصياغة الكاملة للدستور باللغتين الرسميتين مع الزيادة في عدد المقتضيات الدستورية المتعلقة بحقوق الإنسان وتجميعها في فصل مستقل..
دستور النرويج يمثل نموذجا للتغيير في إطار الاستمرارية، وهو التغيير المحكوم بالإرادة السياسية لأعلى سلطة في البلاد بالموازاة مع نضج المجتمع وسيادة ثقافة سياسية ملئها التوافق والتعاون واحترام التقاليد الأصيلة للبلاد...