ينشر موقع دادس أنفو ( مؤسسة دادس للإعلام المواطن ) هذا المقال ليس تأبينا للمفكر المهدي المنجرة وغيره من المفكرين المناضلين لكن تأبينا للعلم والقيم الذي مات في مجتمعتنا.
وجدير بالذكر أن البرفيسور المهدي المنجرة كان قد زار قلعة مكونة يوم 03 ماي 2001 بدعوة من جمعية الغرفة الفتية وألقى فيها محاضرة تحت عنوان «التواصل والتنمية المستدامة». ( الصورة لكريم اسكلا صحبة الدكتور المهدي المنجرة أثناء زيارته لقلعة مكونة )
حين تفقد الحياة إنسانا : ثقافة التأبين وتأبين الثقافة
بقلم كريم اسكلاوردة واحدة لإنسان على قيد الحياة أفضل من باقة كاملة على قبره ( جبران خليل جبران )( فين سقراط فين أفلاطون فين الغزالي وابن خلدون، فين غليلي فين داروين فين ابن سينا وطه حسين، فين نوبل فين أديسون فين دليلا وفين شمشون، فين الكندي فين الخليل فين فنتشي وأنجل مايكل، فين الرازي فين باستور فين بيكاسو وسلفدور، فين المعري فين العقاد فين شهريار وفين شهرزاد، كل شيء راح مع الزمان كل شيء صار في خبر كان …)على نغمات هذه الأغنية الرائعة لعبد الوهاب الدكالي … وبالتصرف فيها لنا أن نتذكر أجيالا من العلماء والمفكرين والمشاهير والمناضلين والمظلومين والضحايا والمقموعين والمنفيين والمسجونين…والناس البسطاء، مروا من هنا…أو لازالوا يعايشوننا لكن ننساهم أو نتنساهم وسط زحمة اليومي والخبزي… » فين فلان وفين علان » … أمتعونا أو علمونا أو ضحوا من أجلنا …لكن كل شيء راح مع الزمان كل شيء صار في خبر كان ؟نتوقف في هذا المقال عند ظاهرة إجتماعية نراها خطيرة، إنها ظاهرة تبخيس الطاقات المحلية ونسيانها، وفي أحسن الحالات الاعتراف بها بعد مماتها. فإذا كان من المؤلم أن يقصى المرء ميتا وحيا. فالأشد إيلاما هو أن يحتفى به ميتا بعد تهميشه حيا. فحتى في تضامننا مثلا مع ضحايا الحروب والكوارث أو أشخاص يعانون من مشاكل صحية أو إجتماعية نرسل لهم أدوية تعالج جراحاتهم ولا نرسل لهم ما يمنع تلك الجراح. لماذا نكرم الموتى في أحسن الأحوال، ونتجاهل تكريم الأحياء؟لم لا تطرب أذننا لمطرب الحي، وإذا طربت له فلا يكون ذلك سوى بعد رحيله؟ هل هي عادة إنسانية أن ندرك قيمة الإنسان فقط بعد أن يرحل عنا ؟ أ لشدة تعلقنا بالماضي نترك الشيء حتى يصبح
ماضيا لكي نقدره ؟
أولا – مطرب الحي …
من منا لم يتابع كيف احتفى العالم أجمع بتجربة فيليكس، كما تابعنا في المغرب بانبهار وجوقة اعلامية تجربة طائرة «سولار إمبولس» منذ تحليقها من سويسرا إلى أن حطت في وارزازات، وكيف أعيدت التجربة أكثر من مرة إلى أن نجحت وأتمت المهمة … كما تابعنا بكثير من التشفي قصتي «مول الطيارة» و » مول الصاروخ » … اللذان أرادا أن يطيرا في غير الزمان والمكان، ونحن نهمس لبعضنا البعض (إوا راه حتى هوما ما بغاوش ادخلو سوق راسهوم أش داهم لشي اختراعات ) أو ما معناه أن على الإنسان المغربي أن يلازم السير قرب الجدران مطأطأ الرأس واضعا خمسا على فمه لأن الفم المسدود لا يدخله الذباب. والواقع أن الخطأ التقني الوحيد الذي منع اختراعيهما من الاشتغال والشهرة هو أنهما ولدا في هذه الجغرافيا العالم ثالثية. هذه الجغرافيا حيث لا مجال لتقديم براءات الاختراع مادام الجميع يبحث عن شهادات حسن السلوك من المقدمين والشيوخ والقياد، وما دامت كل حركاتنا وسكناتنا وأفراحنا وأحزاننا …رهينة بمزاجية أولي «النعمة». هم فقط من لهم الحق في أن يكونوا المخترع الأول والفنان الأول والشاعر الأول … ولن يكون في الإمكان أبدع ممن رضوا عنه وتسلم منهم » مأذونيات » الانتاج والإبداع … ووحدهم من يكون لهم الحق في تخليد أسمائهم في طبونيميا – أسماء الأماكن – وطننا العزيز.ألم يكن من الممكن أن نحتضن «مول الصاروخ» و «مول الطيارة»… وغيرهما، ونعد عن تجاربهم روبورتاجات ونتتبعهم كما فعلنا مع قفزة فيليكس وطائرة سولار؟ أم أنه لو قدر لفيليكس أن يكون مغربيا لوجدناه الان في عكاشة أو الزاكي بتهمة محاولة تقليد معراج الرسول، أو في ال 36 (الترونتسيس ) أو في أي مصحة للأمراض
العقلية لأنه ( طار له الفريخ )…؟
ثانيا – الزهايمر الجماعي
علماء ومفكرون ومبدعون ومناضلون ومعتقلون…تطويهم صفحة التناسي والتنكر الاجتماعي، نتركهم يئنون في صمت بارد، كاتمين غصة تنتحر في حلقهم من حال هذه المجتمعات الناكرة للجميل…مجتمعات تنبهر بالآخر البعيد الغريب…وتهمل بل تعاقب وتشوه أبناءها إلى درجة يصبحون فيها هم الغرباء.وكأن مجتمعاتنا تصاب بمرض الأمنيزيا – فقدان الذاكرة – أو الزهايمر – مرض النسيان – عندما يتعلق الامر بأبنائها وتاريخها الحقيقي، ولا تتذكر سوى أيقونات هوليود وبوليود أو أيقونات الإعلام الرسمي. فهي دائما ما تحتاج إلى صعقة توقضها من سهوها… فقد رأينا كيف أن إحراق البوعزيزي لنفسه قد جعل الشارع المغاربي يتذكر فجأة قصائد الشابي، وأصبح الكل يردد إذا الشعب يوما أراد الحياة …وكيف جعلنا رحيل زفزاف والمجاطي والكغاط وشكري والسعدني وحامد أبو زيد وأركون والجابري … نعيد قراءة إنتاجاتهم بعقل أكثر تأملا، وكيف أرغمنا رحيل درويش وباطما ورويشة وباكو… على إعادة إكتشاف أغانيهم الخالدة، والكثير منا لم يكتشف أشخاصا سوى بعد وفاتهم.الزهايمر الجماعي يجعلنا ننسى كتابات وابداعات كتاب فلا نقرؤها إلا بعد وفاتهم، ويجعلنا ننسى أغاني وقصائد فنانين ولا نتذوقها إلا بعد رحيلهم، ويجعلنا كذلك ننسى مناضلي قضية إلى أن يصبحوا شهداء…وننسى كذلك أما و أبا و قريبا و صديقا…ولا نعبر عن حبنا لهم سوى مع دمعة على قبورهم.
ثالثا – النقاد أو النائحات المستأجرة
من مفارقات العصر الحجري أو الجليدي المعاصر- باعتبار تحجر وتجمد المشاعر البشرية -، ألا يتذكر الناس من مفكريهم ومبدعيهم ومناضليهم… سوى موتاهم، أما من طال عمره فلا أحد يتذكره أو يذكره إلا باحتشام وخجل…والمتأمل لصناعة الثقافة في المجتمعات الاسلامية والعربية مثلا، يسجل كيف أن أرصدة البعض لا ترتفع في بورصة التداول الاعلامي والنقدي إلا بإعلان رحيلهم عن البلد أو عن الحياة. كأنه على المرء أن يموت أو يهاجر حتى يكون له وجود على خريطة الاعتراف والإنصاف.والفاجعة تزداد مع تكرار حالات التسابق لنعي هذا أو ذاك …، فقد تكررت حالات عديدة لنعي مفكر أو فنان… وإشاعة نبأ وفاته ليكتشف بعد حين زيف الخبر. لكن المبكي المضحك في القضية أننا قد لا نتذكر أو لا نعرف العديد من هؤلاء سوى في مثل هذه الحالات من «إعلان الوفاة»، لتنطلق حناجر الولولة والتعزية، وتزبد الأقلام بالتأبين وجرد محاسن وخصال المتوفى…وإعلان الاعجاب و»البنوة» أو «الأبوة»، فالكثير من المبدعين لا نكتشف «اباءهم» و «أبناءهم» و «عشيرتهم» إلا بعيد وفاتهم.فما أن ينتقل أحدهم إلى الرفيق الأعلى أو يكون قاب قوسين أو أدنى من ذلك، حتى تجود القرائح بما لم تقله أي نائحة، ويتحول محللونا وإعلاميونا إلى غاسلي ومكفني موتى… فلا يكاد يجتمعون إلا في مهرجانات وولائم للعزاء، ليعلن كل واحد إما تتلمذه على يد المتوفى أو أستاذيته له، المهم هو الانتساب لانتاجاته. إلى درجة قد يصبح فيه إحتفاء الأحياء بالموتى نوعا من إرادة الاقتيات على الجثث. فلا نكاد نجد أي فرق بين العديد من كتابنا والنائحات اللائي يستأجرن للعويل والبكاء في المآتم.وإن قدر للمرء أن يكرم حيا، فتصبح ملتقيات التكريم حينئذ نذير شؤم كأي طائر عقاب ينعي المكرم أوالمحتفى به. ألم يصبح وضعنا كحال تلك الصورة التي التقطها »كيفن كارتر» وتظهر طائرا كاسرا ينتظر موت طفل سوداني طحنته المجاعة ليفترسه؟ فحتى إقدام الأحياء للتفنن في دفن موتاهم قد يخفي رغبة سيكولوجية في تقدير الذات وليس تكريم المدفون، فعدم الدفن يؤلم الحي أكثر مما يؤلم الميت.جميل جدا أن نحتفي بكل العطاءات التي تحترق لتسمو بنا إلى مدارك ومقامات الجمال من جميع المجالات، من الرياضة والفن والكتابة والاختراع … لكن ألوم واقعنا البئيس الجاحد الذي جعل مناسبات الاعتراف والعرفان والإنصاف كالقبل المسروقة، مجرد لحظات شاذة وعابرة. يحزنني كثيرا أن تكون ممارساتنا «توديعية» أكثر منها «ترحيبية»، «تأبينية» أكثر منها «استبشارية»، كأنها لعنة موغلة في عمقنا الانتروبولوجي، نحتفي بمن يغادرنا «روحا» أو «جسدا» أكثر من احتفائنا بمن يقبل علينا، فحتى في أعراسنا تكون طقوس توديع العروس أكثر احتفائية وصخبا من طقوس استقبالها في دار العريس.لا تجهدوا أنفسكم بالبكاء على الإنسان وإعداد مقابر له، بل احرصوا على إسعاده قبل رحيله.
من كتاب «الهوامش المنسية»، BJ PRINT Agadir 2014 ، الصفحات 65 -61.