راهن على العنصر البشري
محمد جسوس استثمر في الإنسان المغربي وفي الطالب بشكل خاص .
لقد آمن بأن التعليم هو رافعة التنمية فكرس حياته لهذه المهنة التي اعتبرها رسالة أولا و أخيرا .
ومرر له أيضا ترسانة من القيم والمباديء التي يعكسها سلوكه اليومي وتعامله مع كل الطلبة بل كل الناس انطلاقا من مبدإ العدل والمساواة .
كما اعتبر منظرا لحزب الاتحاد الاشتراكي في أوج ازدهاره ،وجاب مختلف الأقاليم يعقد اللقاءات التحسيسية والتأطيرية وكان تواجده بمتابة مغناطيس يجذب جحافل الجماهير التواقة للإنصات لخطابته البليغة و المؤثرة بخصوبة معلوماتها وصفاء صدقها ....
لقد التقيت اليوم بالمقبرة مناضلا أتى من آسا الزاك ( من الأقاليم الصحراوية النائية ) ليحضر مراسيم الدفن تقديرا لهذا الرجل المميز وأقر لي في حديث خاص بأنه كان الوحيد الذي يهتم بالمشاكل النضالية بالمنطقة بجدية بالغة .......
لقد كانت جنازته بمقبرة الشهداء موسما حقيقيا حيث حضر لمراسيم دفنه ناس من كل الأطياف والمناطق والفئات : حضر رسميون وبرلمانيون و جامعيون وطلبة ومناضلون وسياسيون وعمال....
حضرت النساء والرجال وكانت مشاعر الأسى بادية على الجميع واتفق الكل على عظمة هذا الرجل الاستثنائي بكل المقاييس
من خصال محمد جسوس : الحكمة و العلم والقيم
رجل من طينة نادرة جدا جدا ، رجل من زمن القيم والأخلاق الراقية ..رضع الحرية والعفة والنزاهة من سلالته التي سجل لها التاريخ تشبثها بالحق ولو في مواجهة جبروت السلطة وطغيانها
.لقد واجه جده الفقيه عبد السلام جسوس طغيان المخزن الذي طلب منه فتوى تبيح تصرفات معادية للحق فرفض استعمال الدين في غير مكانه وكان جزاؤه الاعتقال والبطش شر بطش ومع ذلك لم يغير رأيه ولم يبع "حنكه "كما يفعل عادة الكثير من وعاظ السلاطين .
ربما هذا أحد الأسباب التي جعلت من محمد جسوس رجلا عصيا على التدجين : عاش زاهدا في السلطة فكانت ممارسته للسياسة
تطبعها الأخلاق النبيلة التي ربي عليها .
عرفته كأستاذ في الصفوف الأولى لعلم الاجتماع وأيضا في مرحلة دراساتي العليا عندما كنت أحضر الدكتوراة .في وحدة علم الاجتماع القروي ونهلت من علمه الشيء الكثير ....
زرته في منزله المتواضع بأكدال وأيضا بحي الرياض ، وكان ترحيبه بنا بالغ المودة والحنو و الطيبة .
منزل محمد جسوس كان دائما مفتوحا لطلبته وكذلك كانت مكتبته الخاصة...وهو دائما مستعد لتقديم خبرته لمن يطلبها . لا يميز بين ابن الوزير وابن الخضار فالمغاربة عنده سواسية كأسنان المشط .
ومن درس عنده لاينساه أبدا . بل قد تشعر به أكثر قربا من أقربائك لأن لقرابة العلم والقيم نكهة جد خاصة .
قليل من الأساتذة والمثقفين من يستطيع وشم ذاكرة من يتواصل معهم عبر بوابة العلم والمعرفة ....
ونادر أيضا من يتمكن من خلق عائلة أخرى يقتسم معها هموم الانتماء لقبيلة مشتركة أوصالها هي السسيولوجيا كما كان يسميها هو .
و ليس صدفة اختياره لهذا المصطلح لأنه يحيل على صلابة الروابط بين المنتسبين لهذا الحقل المعرفي المعروف بشغبه الدائم .أو هكذا كان يتمنى باعتباره بمثابة الأب الروحي لهذا العلم بالمغرب .
لذلك كان العديد منا يشعر بقرابته لمحمد جسوس ، وشخصيا كنت كلما علمت بخبر مرضه أصاب بالفزع خوفا من وفاته علما أنه قاوم المرض طوال عقود بعناد كبير .
قبل أسبوع فقط طاردتني صورته صباح مساء وبإلحاح غريب ........فاستنتجت بأن هناك شيء ما ....قبل أن أعرف من أخته العزيزة "نزهة جسوس" بأنه كان في مصحة خاصة ،ثم غادرها ولازال يتابع العلاج ....
نويت زيارته ببيته فور عودتي من مناسبة عائلية لكن المنية وافته قبل أن أحقق هذه الرغبة .
ولأننا ألفنا توديع كبارنا في السنين الأخيرة ، لم يروعني كثيرا موت أستاذي ....بل قلت في نفسي :هنيئا له لما زرعه في الجامعة وفي الحزب وفي المجتمع . ....هنيئا له أيضا لأنه عاش بزخمه القيمي وقاوم الرداءة بحصانة كبيرة لآخر نفس .
وداعا أستاذنا الرائع الذي قلما يتكرر ...وداعا يا أيقونة علم الاجتماع المغربي ويا رمز النضال في شكله الصوفي ....
تدريسك نضال ومقاومة للتضبيع كما قلت و نضالك خارج منطق الريع والمصالح والأنانيات الصغيرة...
نضالك من أجل المجتمع الذي جعلت غاية تغييره في اتجاه التحديث والازدهار والنماء لصالح الجميع ..
رجل عبقري بقدرته على التحليل السسيولوجي والسياسي العميق في خطاب من نوع السهل الممتنع ويصعب جدا أن يتكلم من بعده من يقتسم معه منصة الندوات لأن بريق خطابه المميز والمثقل معرفة وتحليلا وصدقا وسلاسة سيظل يخطف انتباه المتلقي
لقد عشت معه هذه التجربة في إحدى الندوات التي كانت تسجل بداياتي في التواصل الجماهيري .....ولاحظت أن كل من تكلم بعده كان محرجا و مرتبكا من قوة ما سبقه .ولأنه علمني التمرد المهذب
لم يفلت هو أيضا من انتقادي لحجم الوقت الذي أخذه على حسابنا وسجلت على المنظمين ضرورة ان يتركوا أستاذا من هذا الحجم في الأخير كي لا نحرج نحن تلامذته ولا تبدو مداخلاتنا باهتة ،
ففوجئت برده المتواضع والمشجع أيضا بل اعتذر على الإطالة وتعامل معنا وكأننا زملاء له نحن الذين كنا جميعنا ولا زلنا نتتلمذ على يديه .
...وظلت لقاءاتي معه كلما صادفته هنا أو هناك مفعمة بالود والتقدير والمحبة .وكانت دائما بالنسبة لي فرصة لتجديد النفس والثقة في المستقبل والناس لأنه كان دائم التفاؤل والحماسة والاستعداد للعطاء رغما عن ظروفه الصحية التي تعايش معها لعشريات من الزمن بتحدي
من يتشبث بالحياة عبر خدمة الأجيال والمراهنة على تجديدها ....
سنواصل المسير ة يا أستاذنا فكرا وممارسة كما علمتنا لأن السسيولوجيا التي لا تنصهر مع الواقع في اتجاه تغييره نحو الأحسن لا تستحق اسمها..
زرعت شجرة نحن فروعها ...وسنظل نزرع كي تتحول أشجار علم الاجتماع لغابة قادرة على بسط ظلالها في أكثر من مكان عبر هذا البلد الجميل .....
وداعا أيها الحكيم الذي كان ينبض حياة تنطق نبلا ورفعة وسموا .....
ولترقد روحك الطاهرة في جنات الفردوس .مع الأرواح الراقية التي كانت تنثر كل ما هو جميل وراقي حولها .
علما أن العظماء لا يموتون .....لأن أعمالهم تظل ناطقة بثمراتهم الطيبة على هذه الأرض
دام لك خلود الفكر والروح في شكله الأبهى ......في عالم أنبل وأسمى ... و إنا لله وإنا إليه راجعون .