حزب الأصالة والمعاصرة تقدم بمشروع قانون لتجريم التكفير، والقناة الثانية نظمت ندوة في الموضوع أطرها الصحافي كلحسن في برنامج "مباشرة معكم"، وثار نقاش واسع حول الكفر والتكفير، في عدة مقالات نشرت في مواقع إلكترونية وجرائد ورقية، وكذا في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو نقاش قديم صحّي يجب تحيينه على ضوء الواقع المتشابك الذي نعيشه اليوم، المطبوع بسقوط الحدود التي كانت تمنع قديما انتقال الأفكار، وسرعة انتشار المعلومة، وكذا دخول الإرهاب على الخط في سياق عنيف وعابر للحدود.
رد على بوهندي
كعادته تقدم الدكتور مصطفى بوهندي بأطروحة مخالفة ومتناقضة في الموضوع، تحت عنوان "رسالة في التكفير"، نشرت على موقع هسبريس في جزأين؛ أهم ما جاء فيها:
ـ أولا: أن "التكفير ليس حكما شرعيا، بل جريمة عظيمة في الشريعة الإسلامية حاربها الأنبياء".
ـ ثانيا : "لا يحق لأي إنسان سواء باسم الدين أو باسم السياسة، وسواء أكان فردا أو جماعة أو مؤسسة، أو من ذوي الاختصاص، القيام بتكفير الآخرين، لأنه حق الله وحده وسيستعمله يوم القيامة، عند الفصل بين العباد".
ـ ثالثا : " أن جامع الأخوة البشرية مقدم على جامع الأخوة الدينية".
ـ رابعا: تأويله الفاسد لنصوص صريحة في تكفير القائلين بألوهية المسيح أو التثليث مثل قوله : " نعم القول بألوهية المسيح كفر، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بتكفير هؤلاء القائلين بذلك، ولا بالحكم عليهم بالخزي في الدنيا ولا العذاب في الآخرة؛ وإنما أُمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن وبيان أخطائهم حتى يتوبوا منها ويرجعوا إلى الصواب؛ وهذا مبلغ مهمته عليه السلام، إن عليه إلا البلاغ، وعلى الله الحساب عندما يرجع إليه العباد في يوم الحساب"...
قبل الخوض في صلب الموضوع، يستحسن أن نطرح بعض الأسئلة على السيد مصطفى بوهندي بصدد ما قرّره أعلاه:
ـ إذا كان الكفر مذكورا في مئات المواضع من كتاب الله، فكيف نسكت عنه ولا نتحدث عن الكافر والتكفير وأسباب الكفر، صغيره وكبيره، لنتجنبها؟ وكيف سيفرق عموم الناس بين الكافر والمؤمن؟ وبأي حق سندعو هذا للإسلام ونترك ذاك إذا كنّا نجهل الفرق بين الكافر والمسلم؟ وإنما يعرف الفرق بينهما بصفات تميّز هذا عن ذاك، من الواجب على العلماء أن يبينوها للناس ولا يكتمونها، بل من واجبهم أن يبينوا للناس المعاصي كبيرها وصغيرها، جلها ودقّها، ويحذروا من الزنادقة ودعواتهم الباطلة التي تقوّض أركان الدين وتهدمه من الداخل.
نعم التكفير افتئات على السلطة إذا صدر من جهة غير رسمية على أعيان الناس، أما تكفير النوع فيدخل في حرية التعبير والرأي، ولا يجوز تكميم أفواه العلماء وفي المقابل إطلاق حرية التعبير والإبداع لمن يستهزئ بالله وملائكته وكتبه ورسله، من خلال الرسم أو الفيلم أو المسرحية أو طرح أفكاره، أو ينتقص من أحكامه الشرعية ويعتبرها متجاوزة ومتخلفة أو همجية تعلوها القوانين الدولية التي تحترم حقوق الإنسان.
ـ تقول : "نعم القول بألوهية المسيح كفر، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بتكفير هؤلاء القائلين بذلك، ولا بالحكم عليهم بالخزي في الدنيا ولا العذاب في الآخرة"؛ ألم تقرأ قول الله عز وجل مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم : "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، فإن لم تفعل فما بلغت رسالاته"؛ ومما أنزل عليه كفر هؤلاء الذين تجادل عنهم؛ ألم يقل سبحانه:(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها؛ أولئك هم شر البريئة)؟ فما الفائدة من هذا الكلام إذا لم يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم لقومه ولأهل الكتاب ولسائر الناس ويبيّن لهم الفرق بين المؤمن والكافر؟
وما الفائدة من كلام الله ورسوله إذا لم تبلغه أمته لسائر الأمم؟ نعم بالجدال بالتي هي أحسن؛ وليس بالحروب أو التفجيرات الآثمة، لأن الهداية شأن إلهي استأثر به عن سائر خلقه، كما سنبينه في الجزء الثاني من هذا المقال؛ وهو ما غلط فيه بوهندي، كما غلط فيه الإرهابيون الجهلة؛ لكن من زاويتين مختلفتين.
ـ الشعوب والمجتمعات تضع لها حدودا جغرافية، لا يسمح لأحد باقتحامها إلا بإذن وتأشيرة وعهد أمان، وهناك جمارك وشرطة على الحدود، وقد تصل التحرشات على الحدود أو اقتحامها إلى حروب بين جيوش تلك البلدان دفاعا عن الوطن؛ فهل أضحت العقيدة والقيم والأخلاق والأحكام الشرعية أهون علينا من الأوطان، فلا نجعل لها حدودا من تعدّاها قلنا له: قف مكانك أنت خارج حدود الإسلام، (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)، لك حقوق وعليك واجبات مختلفة، تماما كما تكون للأجنبي في بلاد الغير حقوق وواجبات مختلفة عن المواطن، في سائر بلاد الدنيا وفق كل الأعراف والقوانين الدولية والمحلية.
الهداية وحرية الاختيار
قال تعالى مخاطبا نبيه : (ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء)، وقال له: (إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء)، وقال: (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم)، وقال له: (إن تحرص على هداهم، فإن الله لا يهدي من يضل)، فنفى عنه الهداية هاهنا، وأثبتها له في آيات أخرى، مثل قوله تعالى:(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)،وقال سبحانه عن القرآن الذي أنزل عليه:(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)؛ كذلك قال تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى).
نحن إذن أمام نوعين من الهداية: هداية البيان أو الإرشاد، وهي التي أثبتها لنبيه ولسائر الأنبياء قبله؛ أما النوع الثاني فهي هداية التوفيق، وهي التي نفاها عنهم جميعا، ومن باب الأولى أن تنتفي عمّن دونهم من العلماء والدعاة والمجاهدين ورجال السلطة والساسة وغيرهم.
وهذا التقسيم معروف عند أهل العلم منذ القديم، وبه تميّز الإنسان عن سائر العجماوات، أعني حرية الاختيار بين الكفر والإيمان، لا يستطيع أحد أن ينزع منه هذا الحق، وهو ما نسميه اليوم ب"حرية المعتقد"، فلا يستطيع نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا ذو سلطان أن يجبر الناس على الإيمان؛ وإنما شرع "جهاد الطلب" في بداية نشر الإسلام من أجل إزاحة العوائق في وجه "هداية الإرشاد والبيان"، وبعد ذلك (فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر)، ولهذا السبب تعايش المسلمون مع اليهود والنصارى على أرض الإسلام لقرون عدة.
واليوم، ونحن في عصر الانترنيت وانتفاء الموانع في نشر الدعوة إلى الإسلام، فلا معنى ل"جهاد الطلب"، ولكن جهاد الكلمة ومقارعة الحجة بأختها، أما الذين يروعون الناس بإرهابهم بالتفجيرات الآثمة، وقتلهم بسبب كفرهم أو فسقهم وفجورهم، فعصابات إجرامية يجب تقديمهم للمحاكمة العادلة؛ ولو كان هؤلاء يعقلون لنظروا إلى أنفسهم قبل يتمثلوا الدين بحسب فهمهم، فأغلبهم كانوا فجّارا وفساقا، فلما تابوا استغلتهم جهات مشبوهة لترويع الآمنين ممّن يحسبونهم فجّارا وفساقا..أليس من حق هؤلاء أن تعطاهم فرصة الحياة لعلهم يتوبون أو يذكرون؟
فكم من نصراني أسلم في آخر حياته، وكم من ملحد كان يقول "لا إله والحياة مادة" هداه الله، فهو يصلي ويصوم، وربما يعلم الناس دينهم، وكم من فاجرة اشتغلت في حانة فتاب الله عليها وتعلمت الدين وعلمته؛ وإني لأعرف نماذج من هؤلاء؛ فبأي حق تفجّرهم وتعجّل بهم إلى الآخرة؟ ومن أعطاك أيها الإرهابي هذا الحق؟ أليس الله وحده من بيده القلوب يقلبها كيف يشاء؟هل الله عاجز عن قطع الهواء والطعام على أعدائه حتى تتولى أنت هذه المهمة؟ أليس هداية التوفيق بيده سبحانه وحده؟ وإنما عليك البلاغ إن كنت من أهل العلم بما تبلغه؛ ومن هذا البلاغ أن تقول : هذا كفر وهذا إيمان ليعرف الناس الفرق فيجتنبوا أسباب الكفر ويتلبسوا بأسباب الإيمان.
لقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته القيمة: "قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم"، أكثر من سبعة أدلة من القرآن والسنة على تحريم قتل الكافر لمجرّد كفره، وناقش المخالفين بعقلية أصولية متينة تنسف حججهم، وناقشهم في استدلالهم بقوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)(ص.92)، وبقوله تعالى:(قاتلوهم أو يسلمون) (ص.94)، واستدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله..)،(ص.95-96) وأتى رضي الله عنه على بنيانهم من القواعد، ونفى نفيا جازما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أكره أحدا على الدخول في دين الإسلام، فقال:
"ولا يقدر أحد قط أن ينقل أنه (صلى الله عليه وسلم) أكره أحدا على الإسلام، لا ممتنعا ولا مقدورا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا.."(ص.132)، وبيّن أن المشركين قاتلوه فقاتلهم، وأن النصارى أيضا بدؤوا بحربه فقاتلهم (ص.136).
وعلى منواله سار تلميذه الإمام ابن القيم ، فقال في هداية الحيارى (1/12) : "ولم يكره (النبي) أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول:(لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي)، وهذا نفي في معنى النهي: أي لا تكرهوا أحدا على الدين، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر..".
(ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)