في الديمقراطيات كما في الأنظمة السلطوية، فإن قدراً كبيراً من التاريخ السياسي ونمط توزيع السلط، نستطيع قراءته من خلال جغرافية «الأمكنة السياسية» داخل العواصم: تصاميم القصور، مواقع البرلمانات، مقرات رئاسات الحكومة، بنايات وزارات الخارجية، والمقابر المخلدة للزعماء..
على مدى التاريخ، شكّل المعمار، أداة للسلطة، شكلاً لتخليد العظمة والقوة ، وآلية لترسيخ التراتبيات السياسية والاجتماعية. وشكّلت البنايات الرسمية للدول أولى حالات التعبير عن تفوقها المادي وهيمنتها على المجال.
لنتذكر، في المغرب، كيف حرص إدريس البصري وهو يستوطن قصر ليوطي -الذي أصبح مقراً للداخلية -، على أن يجعل من «العمالات» بنايات فرعونية في شوارع محمد الخامس بالمدن الكبرى، في الوقت الذي كانت الكثير من المحاكم عبارة عن مآرب و»گاراجات» واطئة! ولنتذكر تلك الحكاية الصغيرة للأستاذ العربي المساري، عندما عُين وزيراً للاتصال، ليكتشف - بنباهة الصحافي- أنه لم يفعل سوى أن انتقل من شارع واسع - حيث مقر النقابة الوطنية للصحافة التي كان يرأسها- إلى زنقة صغيرة بلا مخرج، تختبىء فيها وزارة الإتصال!
شرعية السؤال – أعلاه - تتعزّز عندما نُفكّر في المسار الطويل الذي سلكته مؤسسة رئاسة الحكومة طوال المسار الدستوري والسياسي لبلادنا، لنصل أخيراً إلى رئيس حكومة دستور 2011، الذي لم يعد بالبداهة صدراً أعظماً للسلطان، ولا مجرد كبير موظفي «المخزن»، ولا حتى الوزير الأول لحكومة صاحب الجلالة. إنه رئيس»الحكومة المنتخبة»، المستمدة شرعيتها من الإقتراع العام، والمُنَصبة من البرلمان، وذات الصلاحيات الذاتية.
لقد تجاوزنا تلك اللحظة التي جسّدتها الدساتير الثلاثة الأولى لبلادنا، حيث ظلت الحكومة تخضع في وجودها للملك، إذ يعد التعيين الملكي الشرط الوحيد لتأليف الحكومة ولمباشرة مهامها دون حاجة إلى موافقة البرلمان. وحيث الحكومة تابعة للملك تشكيلا وتأليفاً، مسؤولية وسلطة، فاقدة لأي استقلال عضوي عن «القصر».
لذلك، سيكون بالتأكيد من الملائم الفصل المجالي والرمزي بين القصر كفضاء للسلطة الملكية ورئاسة الدولة برمزيتها وسُموها، وإحالتها للوحدة الوطنية، وبين الحُكومة كموضوع للتنافس السياسي والايديولوجي والتداول الحزبي الدوري والمساءلة النيابية والشعبية.
إن رئاسة الحُكومة، اليوم، تحتاج إلى فضاء يرسخها كأحد عناوين الطموح الديمقراطي المغربي، ويسمح لها وظيفياً باستيعاب مكونات إدارة عصرية لأطقم المستشارين والخبراء، القادرين على الدعم المؤسساتي لهذه البنية التي خصها الدستور بقيادة السلطة التنفيدية.
لقد سبق لتجربة التناوب التوافقي لعبدالرحمن اليوسفي أن صالحت المغاربة مع «الوزارة الأولى» كمكان وكفضاء ظل إلى حدود 1998 محاطاً بالرّهبة و ُسر الولوج.
فهل تصالح تجربة حكومة عبدالإله بنكيران «رئاسة الحكومة» كمكان وفضاء، مع مضامينها الدستورية، وصلاحياتها السياسية الجديدة؟