وإن كنا لا نمتلك من جغرافيا الوطنِ الفسيح إلا بضعة أمتار معدودة لا تكفي لنمدد أجسادنا كما نشتهي؛ فلا ننكر بأننا مواطنون محظوظون، لأننا نمتلك فائضا في حصتنا من حبل الغسيل، تكفي لنمدد بحرية أكمامَ قمصانِنا وأطرافَ سراويلنا المنكمشة من كثرةِ تكومنا في الجلوس والنوم..
حبلُ غسيلِ حيّنا الهامشي فريدٌ ومتنوعٌ كفسيفساء قديمة.. يكاد يشبه في فوضى ألوانه وتشكيلاته الباهتة وبقعه المتفرقة عشوائيا، لوحةً تجريديةً فطرية رسمتها أناملُ مجنونة.. ويكاد يتماهى في فضائحه المُعلنة مع كِتابِ مذكراتٍ شخصية تشتت أوراقُه كاشفةً أسرارنا للعابرين .
في الحقيقة ليست لدينا أسرار، كل شيء مكشوف ولا مجال لستر عوراتنا وبؤسنا وخطايانا الصغيرة، ولا نكلف الوطن مصاريفَ تجنيدِ جواسيس محترفين لرصدِ تحركاتنا المشبوهة، فانتماؤنا السياسي ومخططاتنا الإرهابية ونوايانا السيئة ضد النظام وأحزمتنا الناسفة منشورةٌ على حبل الغسيل.. ومقدم الحي لا يحتاج إلا إلى تصفح سريع لخِرَقِنا البالية المعلقة، ليسجل تقاريره اليومية ويحصي عددَ موتانا المفرج عنهم من الذل ويعرف جنسَ مواليدنا التعساء..
كل تمزقاتنا مُعلنة: عُريُنا ورُقعُنا ونذوبنا وجراحنا والرُتوق التي لم تعد تنفع لسترِالثقوب.. لن يحتاجوا إلى تعذيبنا لنعترف، نحن معذبون بالسليقة ونعترف طوعيا وننشر اعترافاتنا على حبل الغسيل.. لن يحتاجوا إلى سجننا لنثوب، فالزنزانة أكثر رحابة من بيت من صفيح.. ولن نحتاج إلى حبل للإنتحار، فنحن مجرد جثث متعفنة لفظتها سياسات الوطن وعلقتها على حبل غسيل على هامش المدينة..
لن يحتاجوا أيضا إلى طبيب نفساني ليشخصوا اكتئابنا المزمن وأمراضنا التي تهدد الاستقرار وتخدش سمعة الوطن، فكل عقدنا النفسية وجنوننا وميولاتنا الإجرامية واضحةٌ من نظرة سريعة لأثوابنا الرثة المنشورة على حبل الغسيل، من انكماشها وذبولها ورقصها الهستيري مع الريح وبقعها المترسبة، يمكنهم قراءة مزاجنا المعكر وتقلباتنا السلوكية وهشاشتنا وآثار خطايانا الحميمية..
هل قلت حميمية؟ عفوا، لا مكان للحميمية في حياتنا الصفيحية.. فنحن عراةٌ مُعلَّقون على حبلِ غسيلٍ جماعي محيط بالحي كحديقةٍ متوحشة، لا أسرار لدينا ولا خصوصية، الجميع يعرف مقاسات الجميع وبقعَهم الصامدة وثقوبَ الجوارب وأحجامَ حمّالات الصدر وألوانَ الملابس الداخلية.. الكل يعرف أولاد الكل، عمرهم، جنسهم، هل هم مهذبون، وهل يتبولون على الفراش.. والكل يعلم الحياة الحميمية للكل، مِن شكلِ الأفرشة والأغطية واليوم الذي تحظى فيه بخروج فضائحي إلى الشمس.
تصوروا الحياةَ تحت سقفٍ من صفيح بلا نافذة ولا شرفة أو حديقة خاصة محميةٍ بسياجٍ نباتية تحجب تفاصيلَ حبل الغسيل، تصوروا أن تصبح خزانةُ ملابسكم الخاصة هي الفضاء المشترك لحبل الغسيل، تصوروا أن تضطروا لنشر ملابسكم الداخلية في الحصة المتبقية في آخر الحي من حبل الغسيل.. تصوروا أنفسكم معلّقين عراةً فوق حبل غسيل..
فقمة المهانة، ليست السكنَ في بيتٍ ضيق، بل غيابُ الخصوصية، وأن تكون ضريبةُ حقك في شمس الوطن هي نشرُ حميميتِك للعموم على حبلِ الغسيل.