في لقاء جمعني بأحد رموز الحركة الوطنية الذي هضمت السياسة حقه في نهاية العمر فقدم استقالته منها، كانت الأزمة قد اشتعلت في منتصف العقد الأول من هذا القرن بين المغرب والجزائر، فتساءلت لماذا لا يلعب رجال الحركة الوطنية بحكم ثقلهم التاريخي وعلاقاتهم الشخصية برموز فاعلة في مركز صناعة القرار بالجزائر دورا في حل المشاكل العالقة بين البلدين؟ وقدمت مثالا لم يمكن فعله كتشكيل إطار فكري سياسي يضم فاعلين وازنين من المغرب والجزائر يساهمون في تقريب وجهات النظر بين الحاكمين وتقديم حلول للماسكين بزمام الأمر بالبلدين الشقيقين، أو تأسيس إطار ذي طابع عقلاني يخلص السياسة بين البلدين من طابعها الغرائزي، فكان رد هذا الرجل ،الذي لم يتخل يوما عن حسه الوطني العالي، حكيما حين قال لي: "بين المغرب والجزائر القضية كبرات واللعب صغار".
اليوم يحضرني جواب هذا السياسي الذي ترك أثره موشوما على صفحات التاريخ المعاصر، ونحن في نصف العقد الثاني من الألفية الثالثة، في سياق تناسل ردود الأفعال بين الرباط والجزائر.. أحس أكثر أبعاد معنى هذا الجواب الحكيم، بحكم أن المغرب منشغل أساسا باستكمال ملف وحدته الترابية، ظل النظام الجزائري يحول نقط قوة المملكة إلى "كعب أخيل"، حيث أخذ يسدد سهامه لما يعتبره اليد الموجعة للنظام الملكي الذي شكل عقدة لمعظم حكام قصر "المرادية"..
وفي اللحظة التي كان يبرز فيها عقلاء عندنا وعندهم، كان الصراع يبدو أكثر بدائية كما لو أن الأرض ضاقت بالبلدين ولو كان فيهما اثنان لفسدتا، وأن العالم لا يتسع لجزائر قوية ومغرب قوي أيضا، كان هؤلاء العقلاء يلقون الصد فينزوون إلى دائرة الظل أو يرمون في قمامة النسيان أو يكون مصيرهم القتل كما حصل مع الرئيس الراحل محمد بوضياف، ليخلو المجال فقط لدهاقنة السياسة وتجار الحروب الذين يغتنون من الآلام والأوجاع.. لذلك القضية كبرات واللعب صغار بزاف..
ذهب العاهل المغربي إلى الجزائر في بداية حكمه كمن يمد للإخوة الجزائريين باقة ورد.. تجول في شوارعها بدون حراس ومدد إقامته على غير المعتاد، لكن عبد العزيز بوتفليقة ابن وجدة لم يرد على التحية بأحسن منها ولا حتى بمثلها، بل أصر على وضع حصى في حذاء الملك، فلم يستقبل الوفد الرسمي الذي ذهب إلى الجزائر ليضع حكامها أمام مقترح الحكم الذاتي الذي قدمته المملكة الموسومة أبدا بالمخزن في الإعلام الجزائري المتحكم في أغلبه عن بعد من طرف الأجهزة الاستخباراتية، قلت الذي قدمته المملكة من أجل إنهاء النزاع المفتعل بالأقاليم الجنوبية، وكلما كبر الصراع كان اللعب يصغر أكثر فأكثر، مما جعل العُقد تتراكم وتصبح مثل عقد ذنب الضب بين الجارين غير الشقيقين، لذلك حينما طالب العاهل المغربي محمد السادس بفتح الحدود بين البلدين بل قام بمبادرة فتإلغاء التأشيرة من جانب واحد، جاء الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى التلفزيون وأخذ يتهكم على ما يشتريه الجزائريون من وجدة الذي اعتبره مجرد "قْشيوشات" وبنص عبارته "قش بخته وفناجل مريم"، بل إن الإعلام الجزائري اعتبر الطلب المستمر للعاصمة الرباط بفتح الحدود بين المغرب والجزائر بأنه تسول من طرف المخزن.
وإذا كنا أقل إساءة في مبارزة التلاسن مع النظام الجزائري، فإن ذلك لا يعني أننا ملائكة والشر من اختصاص الآخرين، وأننا لم ننتج صغارا لعبوا في قضية كبيرة، بل إننا أصبحنا نقرأ في الإعلام تصريحات بعض الزعماء السياسيين والتي ليست سوى ردود أفعال صغيرة انفعالية تصل إلى ذات الحضيض الذي نلوم عليه حكام الجزائر الذين يتاجرون بآلام شعبهم وباستدامة روح الشقاق بين المغرب والجزائر، لكن هل ما حدث يشكل منعطفا آخر في الصراع؟
إن ما يحدث بين المغرب والجزائر اليوم لا يتعدى أن يكون زوبعة في فنجان والصراع بيننا وبين من يحكم الجزائر هو حول من يمتلك الملعقة التي تذيب السكر في الفنجان الإقليمي وليس حول من يديرها".