يوم الخميس 30 مايو 2013، خصصت القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية، جزءً من برنامجها "الجمهور العريض" للممثل الكوميدي جمال الدبوز ذي الأصل المغربي، تضمن تصريحا لهذا الأخير خلال مهرجان الضحك بمراكش عام 2012، يستحق التأمل، حيث قال: "أنا فخور جدا بصداقتي مع ملك المغرب وهذا امتياز أعتز به، فأنا حقا في وضع متميز. أنا أعرف حجم الأوراش التي يشرف عليها، وأنا أوافقه وأؤيده. أعتقد أنه لو كان المغرب يتوفر على المزيد من الأشخاص مثل الملك لتقدم المغرب بسرعة أكبر بكثير، لكنه وحده الذي يشتغل..."
من خلال كلمات قليلة تغلب عليها نبرة التلقائية المصطنعة ولكنها لا تخلو من إشفاق على صاحبها ومكر يندس بين كلماته، عبَّر الفنان عما تسعى السلطة المغربية على مدى عقود أن ترسخه في ذهن المواطن العادي، باذلة في نفس الوقت جهودا مضنية لكي لا ينمو لديه الوعي السياسي، ولا تنتشر ثقافة المواطنة المسؤولة، ومشجعة خطاب التخدير والتذرع بالقضاء والقدر، و ثقافة التفرج السلبي على مجريات الأحداث دون نقد ولا احتجاج ولا مساءلة، تماشيا مع فكرة الرعية التي يتلخص واجبها في القيام بواجب الطاعة العمياء لولي الأمر، ليصبح الأفراد مقتنعين أن علاقتهم هذه مع الملك والملكية علاقة "منزلة" كقدر من السماء، ملزمون بواجب الخنوع إزائها والتسليم المطلق بها، والتصفيق المسبق لها، ولها عليهم كل الحقوق لأنها ملكية مهيمنة قاهرة، وهي في كل شؤونهم حاضرة، لا تخطئ أبدا، ولا تحصى أفضالها عددا، رأيها سديد و نظرها بعيد، سياستها كلها رشيدة وإنجازاتها كلها مجيدة، غضبها مُتعِب وبطشها مرعب.
بعبارة أخرى، فالدعاية الرسمية تريد أن تصور لنا أن هذا بلد يقطنه حشد من الغوغاء و الرعاع الجهلة، ياكلون كما تأكل الأنعام، ليس لهم فكر ولا ضمير ولا إبداع، لا يستطيعون تدبير شؤون أنفسهم، وحتى النخب عندهم لا يمكنها ولا ينبغي لها التخلص من وضع الخادم الخنوع المدجَّن، تعوزها الكفاءة وتفتقد الرؤية، وحتى لو اكتسبت الكفاءة التقنية فإنها ينخرها الفساد. لكن رحمة الله تداركت البلاد بأن منحتها ملكية لتقوم بدور المنقذ والمخَلِّص، فهي الواقي الوحيد من النزاعات، والضامن الفريد للأمن و الأمان، والملاذ من الفتن المتربصة.
إن ترديد فكرة الدعاية الرسمية التي تصور الملك كبطل يشتغل ويعمل و يفكر ويخطط ويراقب و يقرر وحيدا، ما هو إلا اختزال كاريكاتوري لهذه النظرية التي تبرر الحكم الفردي حتى يتسنى للملك الحق في اتخاذ أصغر القرارات وأكبرها على السواء، لأنها مبدئيا قرارات لا أحد غيره قادر على اتخاذها، ولأنها تبقى قرارات معصومة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا مجال لانتقادها ولا جدوى من مناقشتها.
على عكس جمال الدبوز، الذي يستحق "السعفة الذهبية" في التملق والذي تضمن تصريحه هذا إهانة لذكاء كل المغاربة، يرى فؤاد عبد المومني في هذا النوع من الخطاب مدعاة للقلق الشديد.
في حوار مصور سجل يوم 22 مايو، يشرح الخبير الاقتصادي والناشط الحقوقي، بدون مواربة ومن منظور تاريخي، الجانب الخبيث لهذه الاستراتيجية، والمخاطر التي تشكلها على مستقبل البلاد:
"إن النجاح الكبير الذي حققه نظام الحسن الثاني، لا يتمثل فقط في القمع على نطاق واسع، بل في إقناع الجميع بأن الحاشية الملكية ليست وحدها التي ينخرها الفساد بل إن كل النخب ينخرها الفساد، واليوم لا زالت الدولة مستمرة في نهج نفس الأسلوب لدرجة أن هذه الفكرة ترسخت، والدليل على ذلك مثلا هو تشجيعها لأشخاص من المستوى السخيف و ذوي السمعة السيئة ليصبحوا على رأس الأحزاب التاريخية، لكي يزيد اقتناع الناس بأن الفساد لا مفر منه. وإذا كان الجميع مغرقا في الفساد فإن الفرد الذي يسعى لتحقيق مصالحه الشخصية، من الأفضل له أن يتوجه رأسا ليطرق أبواب القصر، بدلا من السعي إلى إرضاء طموحاته وتحقيق الذات عن طريق التعبيرات السياسية والقناعات الإيديولوجية أو التنظيمات الحزبية".
ويضيف فؤاد عبد المومني: "إن الملك الحالي محمد السادس لا يبدو شغوفا بالشأن السياسي، وهو نفسه ضحية هذا الجانب القاتم لدى والده ... في عام 2001 حدث تحول عميق. وأعتقد أنه خلال هذين العامين، دأبت الحاشية الملكية بأكملها وكذلك جميع النخب، سواء الحزبية والحكومية والإدارية والعسكرية وغيرها، كلما أتيحت لها الفرصة للاتصال المباشر مع الملك، أن تخاطبه هكذا: يا جلالة الملك، كونوا على يقين أن كل مجال أو مشروع تهتمون به و تشرفون عليه يتحول إلى ذهب، وبالمقابل فكل ما لا يحظى برعايتكم يبقى على حاله ولا يتحسن أو يتطور. ولذلك، و نظرا لسماع هذا المديح يتكرر على أسماعه ربما اقتنع في نهاية المطاف أنه يحمل معه البركات، وأن العناية الإلهية تحميه وتلهمه وأنه قادر على إحداث إنجازات مبهرة لأن يتوفر على مزايا وقدرات استثنائية، أو كما يقول المثل الفرنسي، خرج من ساق الإله الأسطوري جوبيتر ".
وهكذا تصبح الغطرسة واحتقار الآخرين من أدوات الحكم والتحكم بحيث لا تتورع السلطة عن تجريد أفراد النخبة من كرامتهم وتجبرهم على استيعاب هذا الاحتقار والتعايش معه عن طيب خاطر ثم في مرحلة لاحقة إنتاج خطاب لا يكتفي بتبريره بل يمجده، وكأننا أمام "متلازمة ستوكهولم". في هذا الصدد، ليس من المفاجئ أن يطلع علينا حبيب المالكي أحد بارونات ما تبقى من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بخطاب سوريالي. لقد سُئل عن رأيه في مقاربة حزب الاستقلال الساعية إلى طلب التحكيم الملكي بموجب المادة 42 من الدستور، فأجاب دون خجل وهو يعبر في نفس الوقت عن امتعاضه من الانحطاط السياسي الذي انحدرت إليه السياسية في البلاد: "الملك حَكم وهو ضامن التوازن بين المؤسسات الدستورية لذلك فاللجوء إليه هو لجوء إلى الأمان".
هذا الإقرار يعني أن المقاربة الأمنية والتي تحمي منظومة الفساد المؤسساتي، وتشتغل بالترهيب والترغيب، نجحت في مهمتها القذرة حتى أصيب النقاش العام بالعقم وأغرقت الحياة السياسية في المهازل، وهيمن على النفوس الخوف والجبن الذي يبرره أصحاب النفوس الضعيفة بشبح إيقاض الفتنة النائمة وهواجس الفوضى المتربصة. وهكذا يغيب تحكيم العقل الذي يرى الأمان في ترجيح المؤسسات على الأفراد وفي احترام القانون وفي استقلال القضاء وفي حماية كرامة المواطنين و حريتهم، وليس في اللجوء إلى الملك وتوسل براكاته وانتظار كراماته.
فإذا كان جمال الدبوز يفتخر بصداقته مع الملك ويعتبرها امتيازا يحظى به، فإن الملك على العكس من ذلك ليس محظوظا لأن لائحة أصدقائه لا تضم مثقفا من طينة فؤاد عبد المومني.
لسوء حظ المغرب، أن ملكه يفضل صداقة فؤاد آخر غير صاحب نظرية "ساق جوبيتر"!