قد يبدو هذا الاستنتاج قاسيا في حق أصدقاء طفولة وزملاء دراسة تحملوا ’وزر‘ الانتماء للريف، فتعرضوا لشتى أنواع التجاهل والإهمال أومحاولات الاحتواء بالإغراء والاغتناء والارتقاء الطبقي. هدفي من هذا الكلام الذي أخص به نفسي قبل غيري هو أن حساسيتنا المفرطة تجاه كل شيء أضاعت
منا الكثير من الجهد وحولت وعينا بكينونتنا وهويتنا إلى وعي شقي مرضي مزمن.
الريف المقصود هنا بطبيعة الحال هو ذلكم ’العُش‘ الجغرافي المعزول بين شمال المغرب وجنوب إسبانيا، والذي تتخاصم حول هويته وطبيعته تلك "النخبة" الريفية بين من يريده ريفا "كبيرا" ومن يناضل ليكون ريفا "تاريخيا" دون إغفال من يعمل جاهدا لجعله ريفا لـ "الكفاءات" وكفى.
لا اعتراض لدي على اختلاف الآراء وتباين المقاربات ومقارعة الحجة بالحجة كما يفعل من تجاوز منطق التنابز بالألقاب إلى فضاء النقاش الحر البناء. المسألة في تقديري أن حال "النخبة" الريفية لا علاقة له بمجرد "اختلاف" للآراء بهدف بلورة تصور ما متوافق حوله يخدم مصلحة الريف ومستقبله، بقدر ما يؤشر على مدى التآكل الداخلي لهذه "النخبة" ومدى انقسامها على ’خطوط نار‘ لا تلتقي أبداحتى ولو التقت جبال الريف نفسها.
"النقاشات" بين هذه التيارات المتناحرة تتجاوز المنطق والمعقول لدرجة أصبح فيها الجهر برأي مخالف مخاطرة حقيقية. "اسمع لما أقوله لك أنا". "هاداك باع الماتش". "هاداك شكام ولد الشكام". "هاداك البارح كنت كنخلص عليه القهوة ودابا جا يفهم علي". "هداك مخازني" ."هاداك استقلالي". "هاداك بولحية كرهتو في سبيل الله". "هاداك شفار". "هداك قلب الفيستا"... إلى غير ذلك من القوالب الجاهزة التي يضع فيها من يدعي انتماءه لهذه "النخبة" كل من عارضه في رأي أو ناقشه في فكرة حتى ولو كانت عرضية وتافهة.
وللوقوف على هذا المستوى من "النقاش" بين أبناء "النخبة" الريفية الواحدة، يكفي متابعة ما يدور على الصفحات الاجتماعية أو في المقاهي. في الحسيمة على سبيل المثال تحولت مقاهي بعينها إلى ’معسكرات‘ خاصة بطائفة دون غيرها. وإذا قادك حظك العاثر إلى المقهى ’الخطأ‘ فستتعرض بلا رحمة ولا شفقة لسهام النظرات المستفسرة عن سبب مجيئك؟ ومن أوصاك؟ ولمصلحة من تعمل؟ حتى ولو حاولت أن تبين أنك غادرت المدينة قبل أن تندلع فيها "حرب" المعسكرات وأنك على "نيتك"، فإن سهام الشك والريبة تظل تنهش جسمك وأعصابك حتى تغادر المكان.
الريف، كما هو الشأن في باقي الهوامش المغربية، تتكالب عليه الخيبات من كل الجهات. خيبات من المركز تعمق هوة عدم الثقة بين الريفيين وصناع القرار، وخيبات من ’نخبة‘ ابتعدت عن هموم الناس لتختبئ وراء مفاهيم متخشبة متكلسة لا تتكلم لغة المواطن العادي. وصدق مواطن من عامة الناس حينما قالذات يوم ما معناه: آفة الريف في نخبته.
الظروف التي يمر فيهاراهن الريف لا تسمح بمزيد من ’الاقتتال‘ الداخلي، وأرى أن الأوان قد آن لوقفة تأمل مع الذات نعيد فيها جميعا صياغة طريقة تفكيرنا في المشترك الريفي أولا والمشترك المغربي ثانيا والمشترك الإنساني ثالثا. الريف في حاجة لكل طاقات أبنائه دون إقصاء لأحد. وإذا كان كل ريفي بصفة خاصة وكل أمازيغي بصفة عامة يتباهى بكونه إنسان حر، فإن الحرية تعني في ما تعنيهحرية الاختلاف في الرأي والتفكير والاختيارات.