وفي هذه الوقفات مع إخواننا الشيعة سوف أعرض -بحول الله- إلى أصول المذهب الشيعي حتى يكون القارئ على علم كبير بهذه الطائفة المتنامية في عصرنا.
وبداية لا بد من التنبيه إلى أن هذه الوقفات تخص الشيعة الإمامية الإثني-عشرية في العقيدة، الجعفرية في المذهب الفقهي. (أو بعبارة أخرى: شيعة إيران والعراق ولبنان، وهم جمهور الشيعة في العالم في هذا الوقت، وقد يسميهم بعض خصومهم ب"الروافض". أما الطوائف الشيعية الأخرى الصغيرة مثل الإسماعيلية والعلويين وبعض الزيدية وغيرهم، فعموما مذاهبُهم غير مشهورة، وليس لها مد تبشيري في العالم كالإثني-عشرية).
أول ما ينبغي الحديث عنه:
صحيح أن أول ما ينبغي أن يُتكلم عنه في هذا الصدد هو كيفية نشوء التشيع وضرورة التفريق بين التشيع السياسي والتشيع العلمي والتشيع المذهبي الذي نتحدث عنه، وضرورة الخوض أيضا فيما حصل بين الصحابة من فتن وخصومات بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك يُظهر لنا قِوام هذا المذهب وذاك. وهنا لا بد من التأكيد على أن هناك حقائق تاريخية قد تم السكوت عنها من قبل الطرفين معا؛ السنة والشيعة، لا لأنها خطيرة على الدين الإسلامي بل لغرض تجنب الفتنة أو الخوف منها، وهذا السكوت قد أفقد المسلمين جملةً من تاريخهم الأول الذي كان رافدا من روافد ثقافة هذه الفرق المتنازعة وخاصة الشيعة. وأنا أتفق مع من يقول بضرورة فتح ملفات هذه الحقبة من تاريخ الأمة، (وهي مفتوحة أصلا لكن للخاصة لا للعامة)، من أجل دراستها بتأنّ وتُؤدة، ولكن بشروط أهل الحديث في نقل الخبر ونقده لا بطريقة علماء التاريخ وعلماء الاجتماع والسياسة؛ لأن صحة الخبر مقدم على التحليل التاريخي والتفسير الاجتماعي، فإذا لم يصح الخبر كان مجرد ضرب من الافتراضات التي لا يجوز أن نبني عليها دينا ولا شريعة ولا عقيدة.
وفي انتظار الحديث عن هذه الفترة المهمة من تاريخ الأمة الإسلامية وكيف نشأت المذاهب، أتحدث عن مسألة غاية في الأهمية، ألا وهي "موقف الشيعة من القرآن".
قد يتفاجأ البعض من عنوان هذه المقالة؛ لأنه يُومئُ إلى أن الشيعة لهم قول مختلف عن قول باقي المسلمين في القرآن، والجواب عن هذا هو ما سنراه في هذه العجالة. وبدايتي بالقرآن في كلامي عن الشيعة أمر مقصود؛ لأنه أولى من الحديث عن موقفهم من الصحابة ولعنهم إياهم وأزواج النبي وغير ذلك مما اشتهر به الشيعة لدى جمهور أهل السنة. وأنا أرى أنّ حصر الخلافات بين السنة والشيعة في مثل سب الصحابة والخلاف الذي وقع بين (علي عليه السلام) ومعاوية والصحابة (رضوان الله عليهم)، هو تعتيم مقصود كي لا ينفذ المسلمون إلى أصول الشيعة الأخرى الخطيرة بالنسبة للسنة، والتي كما سنرى تناقض أصول السنة من الأساس.
الشيعة هل يقولون بتحريف القرآن ؟
إن مسألة القول بتلاعب الصحابة بالقرآن ونقصانهم آيات كثيرة منه عمدا، مسألة مشهورة عند الشيعة الإثني-عشرية، وتحتاج إلى دراسة مستقلة ومتخصصة ليس هذا مكان بسطها، ولكن سنكتفي هنا بهذه الفقرات المختصرة.
لقد كثرت تآليف الشيعة في مسألة التحريف، وكثير منها تصرح بوقوع التحريف في القرآن، خاصة في بعض أصول كتبهم الأولى التي عليها مدار مذهبهم، رغم أن بعض كبار علمائهم نفى التحريف عن القرآن كما سنرى أيضا. وكتاب "الكافي" لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الإمامي (ت 328ﻫـ) خير دليل على القول بتحريف القرآن، فقد ورد فيه التصريح بالتحريف في غير ما موضع منه. وكتاب "الكافي" هذا أول الكتب الأربعة التي عليها مدار عقيدة وفقه الشيعة الإثني-عشرية، بل هو أفضل الكتب عند الشيعة، وهي، بالإضافة إلى كتاب "الكافي"،: كتاب: "ما لا يحضره الفقيه" لابن بابويه القمي الشهير بالشيخ الصدوق، و"الاستبصار" و"التهذيب"، وكلاهما لشيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي صاحب تفسير "البيان". ورغم أن بعض النقاد من كبار الشيعة صرحوا بأن في كتاب "الكافي" للكليني أحاديث لا تصح نسبة إليه ولا نسبة إلى من فوقه، إلا أن جمهور الإمامية الإثني-عشرية تعتقد أن ما بين دفتيه صحيح، فهو شبيه ب"صحيح البخاري" عند السنة. ويردون بشدة على من يحاول التشكيك في بعض أحاديثه. ومن علماء الشيعة المعاصرين الذين ردوا جملة من أحاديث "الكافي": السيد مرتضى العسكري. [ينظر كتابه "معالم المدرستين"]. ونظرا لكثرة العلماء من الشيعة القائلين بالتحريف جعل أحد علمائهم، وهو النوري الطبرسي يؤلف كتابا أسْماه: "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، وهو متداول مطبوع.
أمثلة تطبيقية من كتب الشيعة تثبت القول بتحريف القرآن:
- من أبرز كتب الشيعة الإثني-عشرية في التفسير كتاب: "تفسير القمي" لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمي (كان حيا سنة 307هـ)، وهو من التفاسير المعتمدة في المذهب، جاء فيه: «قُرئ عند أبي عبد الله (عليه السلام) [أي: سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه، والشيعة تعتبره الإمام السادس من الأئمة الإثني عشر، قُرئ عليه:] {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} [النور: 74]، فقال: قد سألوا الله عظيما أن يجعلهم للمتقين أئمة! فقيل له كيف هذا يا بن رسول الله ؟ قال إنما أنزل الله: "الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعل لنا من المتقين إماما"». [ينظر "تفسير القمي" لأواخر سورة النور]. والتحريف واضح بزيادة "من" في الآية.
- ويذكر القمي أيضا في تفسير آية أخرى أن بعض الأتباع من الشيعة قرأ على أبي عبد الله جعفر الصادق أيضا هذه الآية: «{كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران:110]، فقال أبو عبد الله (عليه السلام)"خير أمة" ؟! يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) ؟! فقال القاري: جُعلت فداك، كيف نزلت؟ قال: نزلت: "كنتم خير أئمة أخرجت للناس». [ينظر تفسير القمي لهذه الآية من سورة آل عمران]
فقد استشكل "الإمام" أن يتوافق وصف الخيرية للأمة مع ما وقع لآل البيت (عليهم السلام) من مصائب على يد سلطة الزمان، وهو استشكال منطقي داخلي (منطقي في إطار معين). وعند التمعن يظهر أن هذا التفسير اعتمد على منطق مقبول (أي لا يجوز في المنطق الشرعي والمنطق العرفي والعقلي أن تُنسب الخيرية لمن يقتل ويظلم…)، ولكن تنزيل هذا الحكم المنطقي الخاص على عموم الأمة أو أغلبيتها فيه نظر وخطورة، خاصة وأن التفسير الشيعي يتكلم عن التحريف صراحة.
وقد أحصيت -شخصيا- على الإمام القمي التصريح بوجود التحريف في ثلاثة وثمانين (83) موضعا في القرآن الكريم، (دون أن أحصي المواضع التي يظهر منها قوله بالتحريف ولم يصرح بالعبارة الواضحة).
وكما أشرت سابقا فإن القمي ليس وحده القائل بوجود التحريف صراحة في القرآن، بل هناك غيره. فقد تبعه تلميذه الشيخ الكليني في القول بالتحريف كما أسلفت، فنجد كتابه "الكافي" مملوءا بهذا القول الذي ينفيه جمهور المسلمين. فقد أورد الكليني في مؤلفه "الكافي": كتاب الحجة: "باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام، وأنهم يعلمون علمه كله"، عدة روايات تنص على التحريف والتنقيص من المصحف؛ كما هو واضح أيضا من عنوان الباب، ومما أورده في هذا الصدد ما رواه «عن جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أُنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والائمة من بعده عليهم السلام». وقد روى الكليني الخبر نفسه؛ في إثبات التحريف الوارد عند شيخه القمي في تفسيره قوله تعالى: { أن تكون أمة هي أربى من أمة } (النحل: 92).
لكنا نجد تيارا آخر داخل المذهب الشيعي ينفي التحريف، وعموما؛ فقد أنكر وجودَ التحريف في القرآن الكريم، ووافقَ جمهورَ المسلمين بعضٌ من علماء الإمامية الإثني-عشرية، وعلى رأس الأقدمين الشيخُ الصدوق (أبو جعفر محمد بن بابويه القمي ت: 381هـ) والشيخ أبو جعفر الطوسي (ت: 460هـ).
ومن المعاصرين الذين أنكروا التحريف بشدة السيد مرتضى العسكري، وقد صرح بذلك في كتابه "معالم المدرستين"، حيث قال: «إن القرآن الذي بين أيدي المسلمين اليوم، هو الذي أكمل الله إنزاله على خاتم أنبيائه في أخريات حياته، وجمعه أيضا الصحابة بعد وفاته ودونوه واستنسخوه ووزعوه على المسلمين. أوله: {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين }، وآخره: { من الجنة والناس }. لم يكن في يوم من الأيام منذ ذلك العصر إلى يومنا هذا قرآن في يد مسلم، يزيد على هذا المتداول كلمة، أو ينقص كلمة، لا خلاف في ذلك بينهم، وإنما الخلاف في تفسير القرآن وتأويل متشابهه، وذلك لأنهما مأخوذان من الحديث».
وقول السيد العسكري أنه: لا خلاف في أن القرآن المتداول هو نفسه الذي نزل على محمد، لم يزد ولم ينقص، كلام غير مُحَرَّر وغير دقيق. فالقمي والكليني -مثلا- نماذج تخالف هذا الاتفاق الذي حكاه مرتضى العسكري. والواقع أن العدد الأكبر من المتقدمين من الإمامية الإثني-عشرية يقولون بالتحريف، وحتى هؤلاء الذين صرحوا بعدمه قديما قد التمس لهم بعض المتأخرين من علماء الشيعة العُذْر في ذلك! ووجهوا أقوالهم "الشاذّة" إلى أنها من باب العمل بالتقية للمصلحة.
يقول نعمة الله الجزائري [نسبة إلى جزائر (=جزر) بناحية إيران، ت: 1112هــ]؛ بعد أن نقل إجماع علماء الإمامية على عقيدة التحريف: «نعم، قد خالف فيها المرتضى والصدوق [ابن بابويه القمي الآنف الذكر] والشيخ الطبرسي [صاحب التفسير الشهير: "مجمع البيان"]، وحكوا أن ما بين دفتي هذا المصحف هو القرآن لا غير، ولم يقع فيه تحريف ولا تبديل… والظاهر أن هذا القول صدر منهم لأجل مصالح كثيرة: منها سد باب الطعن عليها، بأنه إذا جاز هذا في القرآن، فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه، مع جواز لحوق التحريف لها ؟ وسيأتي الجواب عن هذا، كيف وهؤلاء الأعلام رووا في مؤلفاتهم أخباراً كثيرة تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن، وأن الآية هكذا أنزلت ثم غُيرت إلى هذا؟!»، [ينظر كتابه: "الأنوار النعمانية"]
وقد أكد هذا الرأي القائلَ إن أغلبية الشيعة (خاصة في القديم) اعتقدوا بالتغيير في القرآن، المستشرق جولدتسيهر، حيث قال: «وقد استقر الأمر عند الشيعة، وخاصة المتقدمين منهم، على الرأي القائل إن مصحف عثمان في حقيقة الأمر ليس "هو كل القرآن"». [يُنظر: "مذاهب التفسير الإسلامي"]
ولكن في غياب "القرآن" الكامل التام ماذا يجب فعله تجاه النص "السني"؟ وكيف تُأخذ الأحكام من القرآن وهو غير تام؟! هذا سؤال حير القائلين بالتحريف من الشيعة. والجواب عنه قد تقرر بإجماع الشيعة الإثني-عشرية أنه يجب الاكتفاء «بتفسير القرآن الحالي، وأخذ منه الأحكام على المذهبية الشيعية، فالقرآن المعتمد هو الذي عند السنة، وهذا الاعتماد ساري المفعول إلى أن يخرج الإمام المكتوم ومعه القرآن الكامل. وإلى ذلك الحين تبقى التأويلات والتفسيرات المذهبية الشيعية بديلا عن ما ضاع من القرآن». [يُنظر: "مذاهب التفسير الإسلامي"، لجولدتسيهر].
وخلاصة القول في الختام إن الشيعة في نظرهم إلى القرآن على قسمين: قسم يراه ناقصا قد تلاعب به الصحابة فوقع فيه التحريف، وجمهور المتقدمين من الشيعة الإثني-عشرية يقولون بهذا القول كما رأينا، وقسم يراه كاملا تاما غير محرف، وجمهور المتأخرين من الشيعة مع هذا الرأي. ولكن هنا دعوة صريحة إلى الشيعة المعاصرين إن كانوا فعلا يؤمنون بقدسية القرآن الذي بين أيدينا وأنه كامل غير منقوص، إلى التبرؤ من قول أسلافهم في التحريف، وأن يرُدّوا بصريح العبارة كل الأحاديث المرويّة في أصولهم مثل كتاب "الكافي" و"تفسير القمي" وغيرها من الكتب القائلة بالتحريف، حينها يُعلم فعلا أن المعاصرين من الشيعة لا يقولون بالتحريف وتزول التهمة عنهم.
والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو سبحانه أعلى وأعلم.