القائمة

أخبار

دياسبو #343: فتحي أبو بكر.. من الجزائر إلى فرنسا بين الثقافة والشغف الإذاعي

من طفولة غارقة في الثقافة المحلية بالجزائر، إلى تحديات العبور إلى فرنسا في عام 1974، تشهد قصة المغربي فتحي أبو بكر على قدرة كبيرة على التكيف والمرونة، صاغتها نشأته وشغفه بالإذاعة. هو مستشار تنظيمي ومدافع متحمس عن نقل الثقافة، يجسد التكامل المثالي بين فرنسا والمغرب.

نشر
DR
مدة القراءة: 8'

فتحي أبو بكر، المولود عام 1967 في تلمسان بالجزائر من أبوين مغربيين، يحمل معه قصة عائلته المعقدة والمؤثرة التي تميزت بالهجرات المتتالية والانفصال المؤلم. هاجر والداه بعد أن جذبتهما الآفاق الاقتصادية في الجزائر. وخلال حديثه مع يابلادي قال "لقد كانت فترة تطور قوي جدًا للجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي".

تمثل والدته المولودة في نفس المكان لأبوين مغربيين ووالده المولود في تافيلالت قبل أن ينتقل إلى الجزائر مع والده، الجيل الأول من المهاجرين. من بين أطفال العائلة السبعة، وُلد خمسة أطفال في الجزائر، بينما وُلد الطفلان الأخيران، وهما توأمان، في فرنسا عام 1976.

الطفولة المبكرة في الجزائر (1967 – 1974)

يتذكر فتحي بدقة شديدة، ذكريات السنوات الأولى التي قضاها في الجزائر، حيث كان منغمسًا تمامًا في الثقافة المحلية، وقال  "أتذكر بالضبط أين كنا نعيش، والطريق إلى المدرسة، والمتاجر ومباريات كرة القدم. لديّ أيضًا ذكريات حية عن متجر البقالة الخاص بعائلتي، ورائحة القهوة المحمصة وأكشاك الخضار". وبالمثل، تركت العطلات الصيفية في منزل جده بالقرب من تلمسان ذكريات لا تنسى.

الانفصال والصدمة (1974 - 1975)

بعد قضاء ست سنوات من العمل في فرنسا، تمكن والد فتحي أخيرًا من لم شمل أسرته في فرنسا عام 1974. يقول فتحي "كان دافع لم شمل عائلتنا هو الاستقرار المالي" وأضاف "كبرنا في تلمسان وكنا نرى والدنا مرة أو مرتين في السنة خلال عطلته، مع وعد أو بدون وعد باصطحابنا إلى فرنسا". لذلك مثلت فرنسا فرصة ثانية. ويتابع "كان ذلك في ذروة التطور الصناعي السريع، وجاء الكثير من الناس لتعويض النقص في اليد العاملة".

إلا أن القطيعة الدبلوماسية بين المغرب والجزائر في عام 1975 حطمت هذا الحلم. فقد تم تفريق العديد من العائلات، بما في ذلك عائلة فتحي، بشكل وحشي، وقال "رحلت جدتي وأعمامي ذات صباح في عام 1975. لقد تم ترحيلهم إلى المغرب"، يروي فتحي بألم "جاء الجنود لأخذ أعمامي من المدرسة، وكان أمامهم ساعة واحدة لحزم حقائبهم والمغادرة".

ويوضح أنه خلال هذه الفترة من التوتر السياسي، أصبحت الجزائر، التي كان يحكمها هواري بومدين، المؤيد لجبهة البوليساريو، معادية للمغرب، وقد أدى هذا الموقف إلى الطرد الجماعي للمغاربة من الجزائر. لقد كانت تجربة الطرد التي عاشها فتحي وعائلته عن بُعد، تجربة مؤلمة للغاية، زاد من حدتها فقدان الممتلكات الشخصية والروابط العائلية. "كانت تجربة معقدة للغاية...، وحتى اليوم، يعتبر هذا الموضوع من المحظورات لأنه لم يكن هناك أي تعويضات".

غير أن عودة أسرته إلى المغرب تميزت بدعم الملك الحسن الثاني الذي مكنها من إعادة الاندماج السريع والمستقر في المملكة. وبفضل هذا الدعم المهم، تمكن الأطفال من استئناف دراستهم، وتمكن الكبار من العثور على عمل.

الوصول إلى فرنسا (غشت 1974)

اعتبر فتحي أبو بكر وصوله إلى فرنسا بمثابة ولادة جديدة حقيقية. ففي سن السابعة من عمره، اكتشف عالمًا جديدًا لم يكن يتقن اللغة الفرنسية، ولكنه كان مليئًا بالوعود والفرص. "كان وصولنا بمثابة مغامرة جديدة وانغماس في ثقافة مختلفة وطريقة حياة جديدة. كان هناك جانب مرح في ذلك." والأكثر من ذلك، ساعد هذا التغيير في المشهد على توطيد الروابط مع والده، محولاً حالة الفراق إلى فرصة لتقوية الأسرة.

كانت الرحلة من المغرب، عبر إسبانيا، إلى بوردو مليئة بالتقلبات. فمن دهشة الطفل بأضواء فاس في الليل، إلى التحديات اللوجستية في طنجة حيث وجدت الأسرة نفسها عالقة مؤقتًا في فندق، إلى قطار البضائع الذي اشتعلت فيه النيران في جنوب إسبانيا، كان لكل مرحلة تأثير عميق عليه.

لعبت المدرسة دورًا أساسيًا في اندماجه. فبتوجيه من معلميه وانغماسه في بيئة تعليمية محفزة، تأقلم فتحي بسرعة، وواصل "بفضل أساتذتي في المدرسة الابتدائية، تأقلمت مع المقرر الدراسي. عندما تكون صغيرًا، تتأقلم بسرعة"، كما يقول. لم يمكّنه التعليم من اكتساب اللغة الفرنسية فحسب، بل مكّنه أيضًا من تكوين الروابط الاجتماعية التي كانت ضرورية لتطوره.

والأكثر من ذلك، لم يشعر أبدًا بفجوة اجتماعية مع أقرانه، لأن آباءهم جميعًا كانوا يعملون في المصانع. "كان هذا هو العامل الحاسم. كانت الطبقات الاجتماعية متجانسة داخل هذه الفئة من السكان، سواء كانت أصولنا مغربية أو برتغالية أو فرنسية؛ فقد كان القاسم المشترك بيننا هو الانتماء إلى عائلات من الطبقة العاملة، وعلى المستوى الاجتماعي، لم يكن هناك أي تمييز ملموس".

تكريمًا للإرث الفكري الذي ورثه عن أعمامه وجده، الذين كانوا جميعًا معلمين متميزين، جعل فتحي أبو بكر من دراسته أولوية. "عندما غادرتُ الجزائر، أعطاني جدي 4 أو 5 كتب وقال لي: خذها معك، واصل دراستك، يجب أن تكون هذه أولويتك الأولى". وهكذا غذت البيئة العائلية ميله للتعلم، وأعطت الأولوية لدراسته، على الرغم من الفرص المهنية التي أتيحت له منذ المرحلة الثانوية.

الخطوات الأولى نحو موجات الأثير

الاستماع إلى الراديو، يعتبر شغفا متجذرا بعمق في تاريخ فتحي الشخصي والعائلي. فقد أصبحت الأمسيات التي كان يقضيها في المغرب وهو يستمع إلى أسطوانة توماس دوترونك الشهيرة على قناة Europe1 عادة، وأصبح برنامج  "Il est 5h, Paris s'éveille"، من الطقوس التي يتشاركها مع أعمامه. ويحكي قائلا "لطالما كانت الأصوات في الراديو التي تستمع إليها دون الحاجة إلى رؤية الأوجه، تحمل سحرًا خاصًا بالنسبة لي".

في سن الرابعة عشرة، حظي فتحي بفرصة اللقاء بشخصيات إذاعية فرنسية مؤثرة. ومع ذلك، نصحه والداه "بالاهتمام بدراسته في الدراسات العلمية" على اعتبار أن "الإذاعة مجرد هواية".

إلا أن محاولاتهما بدفعه للابتعاد عن شغفه، باءت بالفشل، حيث دفعه إصراره إلى التوفيق بين دراسته وشغفه بالسياسة. ويحكي قائلا "كنت أرى أن مهنتي المستقبلية: إجراء مقابلات مع السياسيين وقادة الأعمال لمواجهتهم بأساليبهم في الحكم واستراتيجياتهم"، حيث ساهمت دراسته الجامعية في الاقتصاد والإدارة، بالإضافة إلى تكوين في العلوم السياسية، في فهمه أكثر لطريقة عمل المجتمع المعقدة.

اتخذ فتحي خطوة جريئة و"صنع حظه بنفسه من خلال التعلم أثناء العمل". ولتحقيق ذلك، كان يذهب بانتظام إلى محطة إذاعية بعيدة عن منزله، تقع في مكان مرتفع في منزل متنقل. ومن خلال مراقبته الدقيقة لعمل المراسلين الإذاعيين تعلم أبجديات المهنة. وبفضل مثابرته، ومن خلال حضوره المكثف تعرّف على التعامل مع الميكروفونات، وتشغيل الموسيقى التصويرية، وبث الإعلانات والتقارير، والرد على المكالمات المباشرة. وقد منحه هذا التدريب الشامل المهارات إلى الولوج إلى الميدان بشكل احترافي. في عطلات نهاية الأسبوع، كان يستيقظ هو والصحفيون الآخرون عند بزوغ الفجر لشراء الصحف الأولى وإعداد قراءة الصحف للبرامج التي تُبث في السابعة صباحًا. هذا الروتين، بعيدًا عن كونه عملًا روتينيًا، كان بالنسبة له لعبة مرحة، وكان يستمتع برؤية المحترفين يجمعون بين الشغف والعمل.

المشاهدة والاستماع والقراءة

دائما ما كان فتحي يسعى إلى الحفاظ على صلة قوية بجذوره المغربية من خلال الموسيقى والأدب والفنون البصرية. وبحسبه فإن "مشاركة المرء لثقافته الأصلية تتم بشكل أساسي من خلال المشاعر والتعبير الفني، سواء في مجالات الفن أو السينما أو الرسم أو العمارة أو التاريخ".

لعبت الموسيقى دورًا محوريًا في هذا الجانب العاطفي. مستشهدا بـ "الموسيقى العربية الأندلسية الحضرية العربية البربرية"، مشيراً إلى أن ما كان يستمع إليه والداه لا يزال يتردد صداه في أذنيه. وبالمثل، تُعد ثقافة الطهي بالنسبة له وسيلة أساسية أخرى لمشاركة ونقل الروابط الثقافية، حيث يحكي كل طبق قصة ويستحضر ذكريات طفولته الثمينة.

وقد حرص على مشاركة كل جانب من هذه الجوانب مع ابنتيه الصغيرتين، نائلة (24 عاماً) ولونا (22 عاماً)، دون أن ينسى عنصراً أساسياً وهو السفر، لاكتشاف المغرب. عندما بلغتا سن الرشد، خطط فتحي لرحلة برية من باريس إلى طنجة حيث لا يزال بعض أفراد عائلته يعيشون هناك. وقال "كانت هذه الرحلة أكثر بكثير من مجرد رحلة بسيطة".

"لقد كانت لحظة مميزة مع ابنتَيّ لأتحدث معهما عنّا وعن ذكرياتنا وثقافتنا المغربية والمشاعر التي احتفظنا بها من هذه الرحلات العظيمة. تتمثل المرحلة الأخيرة في عبور مضيق جبل طارق، كانت سعادتنا لا توصف"

يعتبر نقل المعرفة جزءاً مهماً من حياة فتحي أبو بكر، سواء على الصعيد المهني أو الشخصي. فعلى مدى خمس سنوات، شارك خبرته في هذا المجال مع طلاب الماجستير 2 في حلقات دراسية بحثية تجمع بين النظرية والتطبيق، كما قام بتطوير شراكة مع جامعة القاضي عياض في مراكش. ويتذكر قائلاً "كنا نساهم باسم فرنسا في هذه المؤتمرات التي كانت تسمى "أيام التسويق والإدارة والاقتصاد الجامعي".

كان الهدف من هذه المؤتمرات متعددة التخصصات، التي كانت تجمع طلاباً من دول مثل كندا ومصر وأستراليا، هو استكشاف التطورات في البحوث الاقتصادية والإدارية وتأثيرها المحتمل على تنمية الأقاليم الجنوبية للمغرب. وقال "كان علينا القيام بذلك في هذه الأماكن لإظهار إمكانات التنمية في هذه الأقاليم"، مشيرا إلى أن تلك الندوات تنطلق من مراكش، وتختتم في العيون والداخلة.

بعد هذه الخبرة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، كرس فتحي وقته بالكامل لمهنته كمستشار في تنظيم الشركات والتمويل، وهي مهنة يمارسها منذ 24 عامًا. "من خلال مهامي، أقوم بإجراء تشخيصات اقتصادية ومالية واجتماعية. وهذا يقودني إلى إجراء مقابلات مع المدراء لمحاولة فهم استراتيجيتهم والاستجابة لطلبات محددة".

في المستقبل، يخطط فتحي وزملاؤه لإطلاق محطة إذاعية متخصصة على شبكة الإنترنت، مصممة لمجال محدد مع التركيز بقوة على عالم البودكاست. واختتم فتحي حديثه قائلا "إن منهجي في العمل الإذاعي الآن يشمل البودكاست"، بدلاً من الإذاعة المباشرة التي يفضلها لعفويتها، سيمكنه هذا المشروع من الحفاظ على ارتباطه بجذوره الإذاعية التي تمثل الخيط المشترك الذي يسري في حياته.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال