لقد مللنا سماع الأسطوانة المشروخة والمكرورة عن الحرب ضد الإرهاب، والكل يعلم أن المسألة لا تعدو أن تكون شعارا تغلف به الأطماع الحقيقية التي تحرك الجهات التي تعلن تلك الحرب.. فقد سمعنا ذلك في أفغانستان، وسمعنا ما يشبهه في العراق، حين اتهم بامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وتبين بعد إسقاط نظامه، وإبادة شعبه، وتدمير بنياته، والاستيلاء على ثرواته، أن ذلك كان مجرد أكذوبة وخدعة، سرعان ما تم تناسيهما بسرعة كبيرة.. وها هي فرنسا اليوم تعلن من جديد، أنها باسم محاربة الإرهاب، تشن غاراتها على هؤلاء المتمردين المستائين من الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية في بلدهم، بينما هي في واقع الأمر تسعى إلى حماية مصالحها في مالي وفي المنطقة كلها.. لقد شعرت فرنسا بالخطر الذي يتهددها، خاصة نتيجة الاكتساح الصيني للمنطقة.. فحسب إحصائيات 2010 تحتل فرنسا المرتبة الرابعة بين المزودين لمالي، بعد كل من السينغال وساحل العاج وجمهورية الصين الشعبية الديمقراطية، بحصة لا تتجاوز 13% من الأسواق المالية.. وهذا ما جعلها حريصة على الحفاظ على علاقاتها مع دولة مالي، من خلال الإبقاء على نظام حكم يكون مواليا لها ومدافعا عن مصالحها الاقتصادية.. وإذا كانت فرنسا تسعى إلى الحفاظ على سوق لترويج منتجاتها وصادراتها، فهي تحرص أكثر على الاستفادة من الثروات المنجمية التي تزخر بها مالي.. فأراضيها غنية بمعادن نفيسة كالنحاس وخام الحديد والذهب واليورانيوم.. وذلك وحده كاف لأن يسيل لعاب القوى الأمبريالية..
ويحق للأفارقة أن يتساءلوا: بأي حق تقوم فرنسا بدور الدركي في قارتهم، وهي التي أذاقت شعوبها الويلات، جراء مدها الاستعماري؟.. وبأي حق تتدخل قواتها في دولة ذات سيادة، حتى بعد أن استصدرت من مجلس الأمن الذي يرأس المغرب دورته الحالية، قرارا يسمح لها بذلك؟ إن مشاكل الدول الإفريقية ينبغي أن تحل من قبل الأفارقة أنفسهم، وعن طريق منظمتهم المعروفة الاتحاد الإفريقي، التي لها، وحدها، شرعية التدخل لحل النزاعات الإفريقية..
إن ما تشهده هذه المنطقة من القارة الإفريقية ينذر بشر مستطير.. ويأتي تدخل القوات الفرنسية ليصب الزيت على النار.. فالحركات الإسلامية المتطرفة اتخذت لها هذه المنطقة الصحراوية المتأبية على المراقبة قاعدة للتدريب، وآلة لتفريخ المقاتلين، وقلعة لتهريب الأسلحة المتطورة، ونقطة جذب لاستقطاب الراغبين في الانخراط في هذه التنظيمات.. ولذلك تنشط في هذه المنطقة جماعات إسلامية متعددة، انشق بعضها عن بعض، وظهر البعض الأخر نتيجة أهداف معينة أفرزها الوضع السياسي في دول المنطقة.. وإذا كانت القاعدة هي الجماعة الأم، فقد انشقت عنها، أو ظهرت إلى جانبها جماعات أخرى تغذت بإيديولوجيتها وتبنت خطها في الجهاد.. ومن هذه الجماعات جماعة أنصار الدين التي تعتبر الآن رأس الحربة في الصراع الدائر في مالي.. لقد تأسست هذه الجماعة على يد أحد أبناء الشمال المالي، معقل الطوارق.. إنه إياد إغ غالي الذي شغل منصب القنصل العام لبلده مالي في جدة بالمملكة العربية السعودية منذ تسعينيات القرن الماضي قبل أن يعود مؤخرا إلى إقليم أزواد في شمال مالي، بعد سقوط نظام القذافي الذي كانت تربطه به علاقة وثيقة.. وبعد تشبعه بالفكر السلفي الجهادي أسس في جبال أغارغا شمال مالي حركة أنصار الدين، مستغلا البعد القبلي ومكانته داخل قبيلة إفوغاس، ووضعه الاعتباري كقائد لحركة تمرد الطوارق ضد دولة مالي في تسعينيات القرن الماضي.. وبفضل تحالفه مع عدد من الجماعات الأخرى النشيطة في الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل، تمكن من احتلال واجهة الأحداث، علاوة على علاقاته الطيبة مع عدد من الدول الغربية التي كان يتدخل لإطلاق سراح رهائنها لدى الجماعات المختطِفة.. وإذا كان تحالفه مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد مثيرا للقلق بسبب التوجه الانفصالي لأطروحتها، فإن الحاجة تدعو إلى حل آخر وسط، يحفظ لهذه الجماعات ماء وجهها، ويصون كيان الدولة المالية من التشرذم…
نعود إلى موقف المغرب الذي جعل نفسه طرفا في هذا الصراع، بسماحه للطائرات الفرنسية باستخدام أجوائه لشن هجماتها ضد المتمردين.. وهو موقف لم يستسغه عدد من الحركات الإسلامية المغربية وكذا بعض التيارات اليسارية التي أعربت عن استغرابها واستنكارها لسماح السلطات المغربية للطائرات الفرنسية بالمرور من أجواء المغرب أو الإقلاع من مطاراته، واعتبروا ذلك إهانة للشعب المغربي.. واستنكروا أيضا موقف الحكومة والبرلمان المغربيين اللذين لزما الصمت تجاه ما يحدث، فاعتبر صمتهما بمثابة تزكية للعدوان على دولة صديقة وشقيقة.. إن ما عرفته دبلوماسيتنا من إخفاقات متكررة، في إفريقيا وغيرها، أمر يتطلب الكثير من الحذر في الصراعات المختلفة، حتى لا نؤلب ضدنا جهات نحن في غنى تام عن عدائها، بل نحن في أمس الحاجة إلى تعاطفها معنا ووقوفها في صفنا..
إن مالي ليست بؤرة للإرهاب، كما يحاول الإعلام الغربي والإعلام المسخر الدائر في فلكه أن يمثلها، بل هي أموال طائلة وثروات معدنية تخبئها كثبان الرمال، فتحجب عن الفرنسيين رؤية الدروس والعِبر التي أفرزتها حروبهم في الهند الصينية، وحروب حلفائهم في أفغانستان والعراق وغيرهما… فما لهم إذن ومالي؟؟؟