يُصنِّف المؤشر العالمي للفساد 180 بلداً من خلال مستوى إدراك المواطنين والمواطنات لدرجة الفساد المستشرية في القطاع العام وذلك على مقياس من صفر (شديد الفساد) إلى 100 (نظيف جداً). ويعبر الحصول على نقطة أقل من 50 عن وجود تجلي كبير للفساد وهو الوضع الذي توجد عليه ثلثي بلدان العالم بما فيها المغرب الذي حصل على 38 نقطة فقط سنة 2023 وعلى المرتبة 97 من بين 180 دولة، مسجلا بذلك تراجعا مضطردا على هذا المستوى منذ سنة 2018 حين حصل على 43 نقطة. هذه النتيجة " تعكس حالة من التراجع تعيشها الإدارة العمومية على مستوى تفعيل القيم"، وفق الدراسة التي أعدها سنة 2023 المركز البرلماني للأبحاث والدراسات حول القيم.
ووفقًا لاستطلاع قامت به منظمة تراسبرنسي فإن قطاع التعليم بالمغرب يشهد بعض حالات الفساد من ضغوط بعض المدرسين لاستفادة التلامذة من الدروس الخصوصية، إلى بعض مديري المؤسسات التعليمية الذين يستفيدون من رسوم التسجيل، دون إغفال الصفقات العمومية، المجال الأكثر تأثراً بالظاهرة وأفضل مصدر للربح بالنسبة للبعض، سواء في وقت إرساء الصفقات أو أثناء تنفيذها. وبحسب المنظمة يرى 60٪ من المغاربة المشاركين في الاستطلاع الذي يعود إلى عشر سنوات أن نظام التعليم فاسد أو شديد الفساد.
الجامعة المغربية أيضا أصبحت تعرف، حسب المركز البرلماني للأبحاث والدراسات، نوعا من " تراجع الثقة بها، بفعل توالي حالات غياب قيم تكافؤ الفرص والاستحقاق والمساواة... كما تنتعش بجامعة اليوم حالات متواترة للزبونية والرشوة، وما يعرف إعلاميا بالجنس مقابل النقط، والتحرش، والسرقة العلمية".
ظاهرة أخرى باتت تحضر بشكل أقوى في قطاعات التربية والتكوين تتجلى في الافتقار إلى الشفافية وعدم الامتثال للإجراءات، والتي يمكن تشبيهها بشكل من أشكال الفساد، أو على الأقل التشجيع على استخدامه. ويتعلق الأمر على الخصوص بانتهاك بعض المسؤولين لقواعد التعيين في المناصب خاصة في التعليم العالي الذي لا يكاد يخلو من احتجاجات كلما فتح التباري على الظفر بمنصب للتدريس أو للإدارة. كما أن ولوج بعض تكوينات الماستر أو النجاح فيها أصبح مظنة لظهور بعض الممارسات المشينة مثل الارتشاء أو التحرش الجنسي، وهي وإن كانت حالات قليلة طفت على الواجهة الإعلامية ووصل بعضها إلى القضاء، إلا أنه أصبح من اللازم مواجهتها بحزم وصرامة حتى لا تنتشر في الفضاء الجامعي.
إن محاربة الفساد ليست بالمهمة اليسيرة، لكنها لا تزال ممكنة. إذ تعتقد اليونسكو أن أطر التقييم القوية، والتقارير المتكررة والمنشورة، وقنوات المقارنة المعيارية والمشاركة المجتمعية النشطة، هي من بين الحلول المختلفة المتاحة لتحسين الشفافية.
وهكذا، يجب معاقبة أي شكل من أشكال الفساد وفقًا للقانون الذي يجب أن ينشئ الإطار القانوني المناسب. وأية ميزانية مخصصة لأي إجراء مهما كان نوعه يجب أن تتم وفق إجراءات تضمن الشفافية والتقييم. بالإضافة إلى هذه الإجراءات، يجب أن يخضع قطاع التعليم لتدابير علاجية تهدف إلى فصل المتورطين في قضايا الاختلاس أو الفساد أو سوء الإدارة، واستبدالهم بأشخاص أكثر كفاءة، مع الالتزام باحترام قواعد السلوك التي تسلط الضوء على سلوكهم الأخلاقي والأطر المرجعية لأفضل الممارسات، مع تعزيز قدراتهم التدبيرية.
لن تنجح هذه التدابير إلا بإنشاء نظام للمساءلة يقوم، كما أكد ذلك (Stecher, Kirby, & Barney, 2004)، على ثلاثة نماذج متكاملة:
· نموذج بيروقراطي يتطلب من السياسيين أن يظهروا للمواطنين الدليل القاطع على امتثالهم للقوانين والنصوص التنظيمية الجاري بها العمل. وهو ما يتطلب اتخاذ إجراءات صارمة من أجل قطع الطريق أمام كل الفاسدين لتولي أي منصب له علاقة بتدبير الشأن العام أو التأثير فيه.
· نموذج مهني يلتزم بموجبه الفاعلون التربويون، بما في ذلك المدرسون، بأن يثبتوا للمنظمات المهنية وأقرانهم التزامهم بالمعايير المهنية. وهذا يقتضي تحديد هذه المعايير بما يضمن تحقيق الحد الأدنى من جودة الإنجاز على جميع مستويات المنظومة التربوية.
· نموذج أداء يلزم المسؤولين عن التعليم، بما في ذلك الوزراء ورؤساء الجامعات ومدراء الأكاديميات، بجعل المتعلمين يحققون النتائج التي التزموا بها أمام الرأي العام. وهو ما يتطلب بالإضافة إلى وضع مخططات عمل دقيقة وبمؤشرات واضحة تعكس بدقة التوجهات الاستراتيجية الوطنية في مجال التعليم، توفير وسائل العمل الضرورية لجميع الأطراف المعنية، واعتماد آليات للتقييم تتسم بالدقة والمصداقية، وتأهيل العنصر البشري للقيام بمهامه مع تثمين عمله وجعله في وضعية اعتبارية راقية داخل المجتمع.
إلى هذه النماذج الثلاثة، يمكننا إضافة نموذج المساءلة المدنية الذي يمنح الأسرة القدرة على التأثير في جودة التعليم، من خلال منحها دور المشاركة في تقييم قدرة المدرسة على الامتثال لمعايير الجودة التي ينبغي تحديدها بشكل رسمي.
غير أن كل هذه التدابير إنما تندرج ضمن الإجراءات العلاجية، ولا يمكنها أن تعوض الإجراءات الاحترازية التي تنتمي إلى الدائرة الواسعة للتربية على القيم، التي وحدها الكفيلة بإعداد أجيال جديدة من المواطنين والمواطنات تمتعض من كل اشكال الفساد و تمج جميع مقوماته. هذه المقاربة الوقائية تعتمد على بلورة إطار مرجعي لمنظومة القيم يستند إلى عدة ركائز أساسية نستقيها من تقرير المجلس الأعلى للتربية الذي صدر في هذا الموضوع سنة 2018:
· إعداد أطر ودلائل مرجعية يتم من خلالها تحديد النسق المفاهيمي للقيم، وتصريف غايات التربية عليها في مختلف مخرجات المراحل التعليمية، مع تدقيق جوانبها الإجرائية وطرق اكتسابها، وتصميم الأنشطة المناسبة لها، بمراعاة تامة لتشابكها وتداخلها مع مختلف المكونات المنهاجية الأخرى المرتبطة باللغات والمعارف والكفايات؛
· اختيار مصفوفة القيم ذات الأولوية انطلاقاً من المرجعيات الأساسية للمغرب، ولاسيما الدستور، مع إدماج المقاربة القيمية والحقوقية في المناهج والبرامج والوسائط التعليمية؛
· إعادة الاعتبار للحياة المدرسية والجامعية، وملاءمة الإيقاعات الدراسية بشكل يسهم في تحقيق أهداف التربية على القيم، بموازاة تعميم الأندية التربوية المختصة في التوعية بالقيم، وتكريس الممارسات الهادفة إلى ترسيخ الحس الوطني والانتماء المشترك وطنياً وعالمياً، وتنمية روح المبادرة والإبداع والبحث لدى المتعلمين في قضايا القيم، من خلال المشاريع والممارسات المواطِنة في إطار مشروع المؤسسة؛
· إدماج مؤشرات محددة في التربية على القيم في اختبارات قبول الأطر الإدارية والتربوية، عند ولوج المهن التربوية والتكوينية، أو عند الترشح لتحمل المسؤوليات المختلفة؛
· تعزيز مناهج التكوين الأساس والمستمر للفاعلين التربويين، ببرامج أو وحدات قارة في هذه التربية، وتثمين وتكريم من يجتهدون منهم في أساليب التربية القيمية؛
· دعم البحث التربوي في مجال قضايا القيم والتربية على القيم وإدماجها في المشاريع البحثية، واستثمار نتائج هذا البحث في تطوير برامج التكوين الأساس والمستمر لمختلف الفاعلين التربويين، وتعميم البحوث والدراسات والتقارير الوطنية حول الموضوع، بغاية استثمار السياسات العمومية لها في تطوير منظومة التربية على القيم.
وبين المقاربة العلاجية والمقاربة الوقائية يبقى تخليق الحياة العامة من بين المدخلات الأساسية للتضييق على الفساد والمفسدين من خلال اتخاذ سياسات عمومية ترمي إلى الإرساء التدريجي لنظام الاستحقاق في جميع المجالات، من أجل القطع نهائيا على المدى البعيد مع نظام التفاهة بتعبير ألان دونو. هذا النظام الذي لا يؤدي حسب قوله إلى " تقديم عمل جيد ولكن تحقيق النجاح الاجتماعي حول أي إنجاز عادي. من خلال جذب الانتباه ثم الحصول على الاعتراف من قبل منظمة "رسمية" إلى حد ما، يرتقي هذا العمل الأولي الهزيل إلى مرتبة نموذج يخدع الأبصار. ومن خلال التقليد المتتالي نحصل على "وهم النتيجة"." .