لحظة الموت كلحظات الحياة، هي حظوظ وأقدار ونصيب وجزاء وحساب.. هناك من يودع الدنيا في الوقت المناسب، في قمة تألقه وتوهجه وسلطته. يرحل في يوم مشمس، في نهاية الشهر، وبعد أن يكون قد نظف باب بيته وعبد الطريق وسوى ديونه وأبرم الصلح مع الخصوم.. وهناك من يعانده الموت في لحظات الجاه والوجاهة والسطوة والجبروت، فلا يأتيه إلا منهزما منكسرا ومنبوذا من الجميع.. وهناك من يرحل عريسا محمولا على أكتاف العشاق والمعجبين ومبللا بدموع الرفاق والإخوان والأتباع والمريدين..
فهل كان يتوقع بائع خضر مهمش في أحياء تونس الفقيرة أن تكون لحظة موته حدثا سياسيا حاسما، وأن تتحول جنازته إلى موكب ثورة ضد الاستبداد لا زال متواصلا في الشارع العربي؟ وهل كان يتخيل أحد بأن ديكتاتورا كصدام حسين، سيدفن في الظلام في قبر مهجور وسط صمت عربي رهيب؟ وهل كان يعلم العقيد معمر القذافي أن جثته ستتحول لمجرد فرجة وشماتة لشعبه الذي كان، قبل أيام من موته، يهتف في الساحات والشاشات بحياته وعبقريته؟ وهل تخيل يوما، وهو يحكم ليبيا بكتابه الأخضر، ويسير العالم بنفطه، بأن جنازته ستهرب في الفجر من دون ثوب أخضر مطرز بالذهب، ومن دون حراس، و بلا قصائد رثاء وجوقة منشدين؟ وهل كان سيناريو الجنازات الكبيرة والمهيبة للزعماء العرب الراحلين سيحافظ على التفاصيل والدموع نفسها والنحيب نفسه، لوتأخر موتهم إلى ما بعد الربيع؟؟
ماذا لو كنا نملك سلطة اختيار متى وكيف نموت؟ ألم يكن من الأفضل للوزير القوي إدريس البصري لو استعجل موته قبل صيف 1999؟ من كان يتوقع يوما بأن يسير في جنازته وزير وحيد، وفي جنازة معارض ومعتقل سياسي كإدريس بنزكري أمير ومستشارون وفقراء وفريق من الوزراء؟ وأي عقل كان يتوقع بأن الشيخ عبد السلام ياسين الذي اعتقل يوما بتهمة الجنون في مستشفى للأمراض العقلية، ستكون جنازته أكثر حكمة ومهابة ودموعا وحضورا ورمزية وفسيفساء سياسة من جنازة سجانيه؟
تتعدد الجنازات والموت واحد.. له المذاق المر نفسه، والفلسفة المستعصية على الإدراك نفسها والدروس التاريخية نفسها، التي لا يلتقطها الحكام.. فيا ليتنا نستخلص العبر، وندرك بأن الحياة مجرد تراجيديا عابرة، تتغير فيها الشخصيات والأحداث، وتنقلب فيها الأدوار حتى اللحظات الأخيرة.. فلا أحد منا قادر على التنبؤ بالنهاية، ولا ممثل منا يدرك تفاصيل المشهد الأخير...