ورغم أن الجماعة أخذت صبغة مؤسساتية شورية فإن مركزية الشيخ عبد السلام ياسين كانت تظلل جميع الخطوات في مسيرة الجماعة.
ذلك أن الخاصية الأساسية لهذه الجماعة تكمن في مرشدها الأستاذ عبد السلام ياسين المؤسس الفعلي للتنظيم والشخصية المحورية داخلها، الذي طبع بكتاباته مسيرة الجماعة وأسس لمنهجها التربوي والسياسي، ولذلك فإن فهم "استراتيجية" الجماعة ينطلق من فهم الفكر التربوي والسياسي لعبد السلام ياسين ولنظرته لقضايا الحكم والسياسة.
الشيخ عبد السلام ياسين هو منظر الجماعة بحكم إنتاجاته الغزيرة وبحكم المكانة السامية التي يحظى بما داخل التنظيم، ولذلك فإن فهم الرؤية الإصلاحية لجماعة العدل والإحسان تمر عبر استيعاب الأفكار الأساسية للمرشد العام للجماعة المنشورة في كتبه المختلفة.
طبعا، قراءة الأفكار السياسية والتربوية للمنظر الوحيد داخل الجماعة لا تكفي لوحدها لرسم صورة جامعة حول التعقيدات التي تحيط بالمواقف السياسية "التكتيكية"، فهناك عوامل أخرى مرتبطة ب"سيكولوجية الجماعة" وبالتقاليد التنظيمية الظاهرة والخفية التي تتحكم في التنظيم لا يستطيع المراقب الخارجي الإلمام بتفاصيلها الدقيقة، لكنها بالتأكيد موجودة داخل الجماعة وإن كان من الصعب أن تكشف عن خريطتها الفكرية والسياسية داخل تنظيم حريص على إبراز صورة متماسكة أمام الرأي العام الخارجي ويمارس اختلافاته الداخلية باحتشام كبير.
ظلت الجماعة تثير الكثير من التساؤلات لدى المتابعين لحركية الإسلام السياسي في العالم العربي، فهي جماعة مختلفة في أدبياتها الفكرية عن باقي الحركات الإسلامية في العالم العربي.
كما يلاحظ العديد من المراقبين بأن تموقعها السياسي المعارض معارضة صريحة لطبيعة نظام الحكم في المغرب، لا يواكبه وضوح كامل حول طبيعة النموذج السياسي الذي تسعى الجماعة لتحقيقه على الأرض.
في الآونة الأخيرة تميز حضور الجماعة بالمشاركة الفاعلة داخل الحراك المغربي مع دينامية 20 فبراير، وظهر بأن هناك حاجة إلى فهم هذه الجماعة أكثر وفهم مواقفها السياسية ضمن سياق أشمل، وهو استيعاب المرجعية الفكرية والسياسية التي تنطلق منها الجماعة وتؤطر تصوراتها حول قضايا الحكم والسياسة وما يرتبط بها من إشكاليات فرعية من قبيل نظرة الجماعة لمفاهيم الديموقراطية والتعددية وللمسألة الدستورية وتطبيق الشريعة والموقف من الغرب وغيرها..
بالمقابل يسجل للجماعة وضوحا كاملا في المواقف المرتبطة بنبذ العنف والسرية والتعامل مع الخارج، ذلك أن الأستاذ عبد السلام ياسين كان سباقا إلى نبذ العنف وإلى التنبيه إلى آثاره المدمرة على مشروع الدعوة، وهو بذلك يكون من المساهمين في ضمان الاستقرار في البلد وإنقاذ آلاف الشباب من الوقوع في براثين الغلو والتطرف..
عبد السلام ياسين كان سباقا أيضا إلى نبذ السرية والتنبيه إلى خطورة التنظيمات السرية وأثرها على الدعوة، وهذا أمر طبيعي فلا شيء يبرر السرية مادامت الجماعة تؤمن بنبذ العنف، كما يسجل لعبد السلام ياسين نبذه الارتباط بالخارج، أو الاستعانة بالخارج في التدافع السياسي الداخلي..
هذه جملة من الثوابت التي أتصور بأنه لن يقع فيها تغيير وقد أصبحت راسخة في منهاج الجماعة، ورغم ما يظهر عليها من تشدد في المواقف السياسية ومن عنف لفظي في بعض الأحيان فهي تبقى جماعة مسالمة تؤمن بالحوار وتدعو إليه..
هناك ثلاثة تحديات أساسية ترتسم أمام الجماعة في اللحظة الراهنة:
ـ التحدي الأول هو النجاح في تدبير الانتقال بطريقة ناجحة. تدبير الانتقال لا أقصد به النجاح في انتخاب من يخلف الأستاذ المرشد على رأس الجماعة من الناحية التنظيمية فقط، فرصيد الجماعة في هذا الباب يمكنها من تجاوز هذا الاختبار بنجاح، والجماعة تتوفر على جيل من القيادات التي عاشت مع عبد السلام ياسين رحمه الله معظم المحطات الأساسية في مسيرته الدعوية والقادرة على قيادة سفينة الجماعة على قاعدة المنهاج التربوي والسياسي للجماعة، ولكني أقصد بالانتقال: انتقال وعي الجماعة من جماعة متمركزة حول محورية الأستاذ المرشد إلى تنظيم مؤسساتي يتمثل قيمة الشورى والديموقراطية بشكل حقيقي.
ـ التحدي الثاني هو تحدي الحفاظ على المخزون التربوي الذي سطره الأستاذ عبد السلام ياسين وتحصين الجماعة من الفتن التي يمكن أن تعصف بها نتيجة التنازع، الذي يمكن أن يدب إلى الجماعة بعد رحيل الأستاذ المرشد الذي كان يمثل ضمانة للتوازن داخل الجماعة، ومرجعية لتذويب الخلافات وتهدئة النفوس في لحظات الأزمات والعواصف، والعض بالنواجذ على التربية ثم التربية ثم التربية...
ـ التحدي الثالث هو تحدي التجديد الفكري والاجتهاد السياسي، وامتلاك القدرة على تحويل الأفكار النظرية التي بسطها الأستاذ عبد السلام ياسين إلى برامج عمل قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وهو ما يتطلب اقتحام عقبة الإشكاليات الكبرى ومناقشتها بكل جرأة وشجاعة، من قبيل علاقة الدين بالدولة أو علاقة رجال الدعوة برجال الدولة بتعبير الأستاذ المرشد، وفي ارتباط مع ذلك مناقشة علاقة الجماعة الأم بالدائرة السياسية، هل هي علاقة تبعية رجال السياسة لرجال الدعوة، أم إن مجال السياسة بطبيعته مجال مختلف؟ ومن تم تدقيق العديد من الإجابات المرتبطة بنموذج الدولة التي تؤمن به الجماعة وتخطط لإقامته على الأرض..
طبعا هذا مرتبط بالوعي السياسي للجماعة وبالظروف السياسية في البلاد فإذا بذلت الجماعة مجهودا فكريا وسياسيا في اتجاه تجاوز هذه المعوقات كلما كانت أقرب إلأى خيار المشاركة السياسية الذي كان من بين الخيارات التي طرحها الأستاذ المرشد في العديد من كتاباته، لكن هذا التطور ليس مرتبطا فقط بالجماعة، ولكن مرتبط بتطوير شروط الممارسة السياسية في البلاد، فكلما تقدمنا في ترسيخ مقومات الديموقراطية في المغرب، كلما ازداد الاقتناع لدى الجماعة باقتحام عقبة المشاركة والعمل لصالح البلاد والعباد من داخل المؤسسات التمثيلية المنتخبة بطريقة ديموقراطية في إطار دولة القانون والمؤسسات.
هذه جملة من التساؤلات والإشكاليات الكبرى التي تطرح على جميع الحركات الإسلامية في العالم وليس فقط على جماعة العدل والإحسان، ويمكن للجماعة بما تمتلكه من خزان بشري أن تبدع العديد من الأطروحات النظرية والبرامج العملية التي تمكنها من التحول إلى فاعل مؤسساتي مباشر خصوصا في ظل المتغيرات الجديدة المرتبطة بمرحلة الربيع العربي الذي لم يستكمل دورته بعد...